العشر الأوائل من ذي الحجة
قصة الاسلام/قبسات أون لاين
ما أحلم الله! جعل للبشر نفحات إيمانية يتعرضون لها، ومناهل موسمية يتزودن منها، وأيامًا مباركة للمسابقة فيها، وجعل -سبحانه- ليلة القدر أعظم ليلة وهي خير من ألف شهر، وجعل ليالي رمضان أعظم الليالي، وأعظم يوم عرفة، وأعظم الأيام العشر الأُوَل من ذي الحجة، كما جعل أفضل ساعات اليوم ساعات السحر، وأفضل ساعات الأسبوع ساعة الإجابة يوم الجمعة، وجعل أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة، وجعل رمضان أفضل شهور السنة، وهكذا، نفحات تلو نفحات تلو نفحات. قال النبي : "افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ, وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ, وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ, وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ"
ثواب المجاهدين
ومن هذه النفحات العطرة، ومن هذه الأيام المباركة، أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، التي هي أعظم الأيام على الإطلاق، والعمل الصالح فيها أفضل ثوابًا، وأعظم أجرًا؛ فعن ابن عباس t أن رسول الله قال: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِه" يعني العشر الأوائل من ذي الحجة، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟! قَالَ: "وَلا الْجِهَادُ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"
وفي ذلك دلالة على عِظم هذه الأيام، وأعمال الخير فيها.
كما أن في هذا الحديث إشارة عجيبة على تعلق الصحابة بالجهاد، ألا ترى أول ما جاء في أذهانهم وأول ما صدر على ألسنتهم، إذ قالوا: "ولا الجهاد"، وكأن التربية النبوية جعلت فيهم أن الجهاد لا عدل له من الأعمال، فتعجبوا من شأن هذا الخبر. فهذا الحديث قد أبان فضل الجهاد من ناحية، وفضل هذه العشر من ناحية أخرى.
أقسم الله بها
وهي أيام أقسم الله بها، وذلك في أصح الآراء في تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
قال ابن كثير: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف"[
والله تعالى لا يقسم إلا بعظيم، والقسم يلفت الانتباه إلى فضل المقسوم به، وعظّم الله من شأن هذه الأيام، فأقسم بلياليها ونكّرها، أي لم يقسم بها معرّفة هكذا: "والليالي العشر"، فلما نكّرها زاد في تعظيمها، وأفرد بالقسم أعظم يومين فيها: {وَالشَّفْعِ} أي يوم النحر، {وَالْوَتْرِ} أي يوم عرفة.
وتعبد فيها موسى
قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]. قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاص قوم موسى من فرعون وإنجائهم من البحر
وقد صام موسى u هذه الأيام، وتحنث فيها، وفيها كلمه الله وأنزل عليه الألواح.
وفيها أكمل الله الإسلام
ففي هذه العشر نزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]، حيث نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع من العام العاشر الهجري.
وهي الأيام المعلومات
قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28، 29].
قال ابن عباس: "الأيام المعدودات" أيام التشريق، و"الأيام المعلومات" أيام العَشْر. وقال عكرمة: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] يعني: التكبير أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر
يوم عرفة
وسن رسول الله صيام أيام العشر باستثناء اليوم العاشر، فهو يوم النحر.
أما اليوم التاسع فهو يوم عرفة، وصيامه يكفّر ذنوب سنة ماضية وسنة آتية، قال رسول الله : "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"
وهو يوم عيد، لسعة الرحمات التي فيه، ومنح البركات التي تتنزل فيه، قال رسول الله : "يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإسلام، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْب"
وهو يوم عتق من النار، يوم يدنو الله فيه، يوم يباهي فيه الله بعباده، فاستنقذ نفسك فيه! قال رسول الله : "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ".
وخير الدعاء؛ الدعاء في يوم عرفة، فحبّر دعاوتك، وجهز كلماتك، وتزين لمولاك، قال رسول الله : "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وهو اليوم المشهود، في قول المعبود، في سورة البروج: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، قال رسول الله : "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ"
فاحبس نفسك في هذا اليوم له، ولا تشغل طرفك بشيء عنه، ولا يكترثنك فوت شيء من الدنيا فيه.
يوم النحر
وهو اليوم العاشر، وهو أعظم الأيام بعد عرفة، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وفيه يسن خروج الجميع إلى المصلى؛ فعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ.
وفيه الأضحية، وتسن بعد صلاة العيد، في أي أيام العيد، ويُحظر على المضحي أن يعطي جلدَ الأضحية إلى الجزار، كما لا يجوز إعطاء الجزار شيئًا من لحمها على سبيل الأجرة؛ وذلك لحديث علي بن أبي طالب t: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لاَ أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا. قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا"
والأضحية ذريعة للبر والصلة، ووسيلة لتحقيق التكافل والتزاور بين المسلمين، وإطعام الطعام، وإدخال السرور على الفقراء، ومواساة الجائع النائع، والمريض الدانف، واليتيم الضائع، فاحرص على هذه النوايا جميعًا وأنت تضحي وأنت توزع اللحوم وأنت تجمع الجلود.
الكعبة تطوف حولك !
وبصيام أيام العشر وقيام لياليها، مع صدقة السر وأعمال البر، والإكثار من الذكر؛ يعيش المسلم الجو الإيماني الذي حُرم منه في مشاهد الحج، كما أنه بذلك ينسجم إيمانيًّا مع حركة الحج التي يقصد الناسُ فيها البيتَ الحرام، فيشارك إخوانه الحجاج بحج القلب وإن لم يحج الشخص.
ومن الناس من يقطعون الفيافي إلى بيت الله الحرام من مال حرام ورئاء الناس ويرجعون من أرض الحجاز وقد رُدت عليهم حجتهم، ومن الناس من حال فقره دون الكعبة، وحال مرضه دون أرض الله الحرام، وتهفوا نفوسهم إلى رؤية الكعبة؛ بيد أن الكعبة تطوف بهم في ديارهم وهم لا يشعرون! حبسهم العذر، وإنما الأعمال بالنيات.
الحج للجميع
فلا تظنن أن ثواب الحج لمن حج بجسمه, بل لمن حج بقلبه وإن أُحصر، فها هي أعظم الأيام بين يديك، فهيَّا، هيَّا:
1- إلى التوبة، فهي محجة الفلاح، وسبيل النجاح، والله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. ويقول النبي : "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"
وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: عجبًا لمَن يَهْلك ومعه النجاةُ! قيل له: وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار.
وقال صاحب العقد الفريد:
بادرْ إلى التَّوْبِة الخَلْصَاء مُجْتهـدًا *** والموتُ وَيْحك لم يَمْدُد إليك يَدَا
وارقُبْ من الله وَعْدًا لَيْسَ يُخْلِفُه *** لا بُدَّ لله مـن إنجـاز مـا وَعَدَا
2- إلى ثواب الحج والعمرة من أقرب مسجد إلى بيتك، وذلك بالاعتكاف في المسجد حتى الضحى فهي حجة وعمرة بالتمام والكمال، فقد قال النبي : "مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ -أي الصبح- فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ.
3-إلى الصيام, ورسول الله يقول: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"
4- التهليل والتكبير والتحميد: فقد قال الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. ومن ثَم يسن في هذه الأيام الإكثار من الذكر، خاصة التهليل والتكبير والتحميد؛ لقول النبي : "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ولا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ".
قال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
5- التقرب إلى الله بالنوافل والصالحات والقيام والخيرات، ففي الحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
6- العفةَ العفة، والفضيلةَ الفضيلة، فهذه الأيام فرصة لنشر أخلاق الحياء، والعودة إلى النقاب والحجاب، وتيسير الزواج، ومحاربة التبرج والبغاء، والخلاعة والمجون، والرذيلة والفجور، والمغالاة في المهور، وليكن من دعائنا في هذه الأيام "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
5:14 م
مناسبات
.