تنازلات سلطة عباس .. أين الخطوط الحمراء؟
حقيقة لم تكن مفاجأة من النوع الثقيل أو حتى الخفيف تلك الوثائق التي نشرتها فضائية الجزيرة والخاصة بمفاوضات السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي, وذلك لمن تتبع مسار القضية منذ بدء المفاوضات وحتى اللحظة الراهنة, خاصة بعدما تولى الرئيس المنتهية ولايته محمود عباس (أبو مازن) السلطة خلفاً للراحل ياسر عرفات. فالرجل وحاشيته السياسية ما ظهر منهما في العلن كافياً بذاته لمعرفة توجهاتهم ورؤيتهم للقضية الفلسطينية, فهم يجرمون مقاومة الاحتلال, ويعدونه نوعاً من العبث بالقضية, ويلاحقون قادة المقاومة في الضفة بتنسيق معلن مع قوات الاحتلال, ولا يرون أفقاً للحل سوى طاولة المفاوضات وفقط. وتآمرهم على غزة أبان العدوان الإسرائيلي في ديسمبر 2008, وموقفهم المناوئ لتقرير جولدستون, وإجهاضهم إدانة هذا العدوان في المحافل الدولية بصورة معلنة يعطي دلالة على المدى الذي يمكن أن تصل إليها سلطة رام الله ورجالاتها.
ما الجديد في هذه الوثائق؟!
الجديد في وثائق الجزيرة أن الخطوط التي كان يتوقعها رجل الشارع العربي فيما يخص القضية الفلسطينية حمراء, تأكد له بالأدلة أنها ليست كذلك لدى السلطة الفلسطينية, التي لم يعد لديها خطوط حمراء أو حتى سوداء .. فما كان محرماً في عهد الرئيس عرفات, خاصة فيما يخص قضايا الوضع النهائي بات مباحاً, بل مندوباً في عهد عباس وعريقات وقريع. فتلك الوثائق التي نحن بصددها تكشف أن السلطة الفلسطينية تنازلت عن المطالبة بإزالة كل المستوطنات في القدس الشرقية باستثناء مستوطنة جبل أبوغنيم, وأظهرت محاضر جلسات المحادثات أن مفاوضي السلطة قبلوا بأن تضم إسرائيل كل المستوطنات في القدس الشرقية باستثناء المستوطنة المشار إليها, ووصل الأمر إلى تصريح أحمد قريع للإسرائيليين بأن هناك "مصلحة مشتركة في الإبقاء على بعض المستوطنات". وإذا كانت المصلحة الإسرائيلية واضحة في بناء وبقاء مثل هذه المستوطنات, فأي مصلحة للفلسطينيين في بقاء المستوطنات, اللهم إلا التعويل عليها وسوقها كمبرر لوجود قوات الأمن الإسرائيلي, ومواصلة إجهاض قادة المقاومة بالتنسيق مع هذه القوات, والارتكاز على هذه القوات لحفظ أمن السلطة ذاتها. وهذا التنازل في مضمونة نراه تنازلاً عن دولة فلسطينية متحدة جغرافياً؛ حيث الوجود الإسرائيلي يقطع أوصال تلك الدولة حتى قبل أن تنشأ واقعاً على الأرض. وبخصوص القدس, كشفت الوثائق المنشورة, أن كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات قد اقترح حلاً وصفه بأنه غير مسبوق لتقسيم القدس ومقدساتها, وأبدى رغبته في التخلي عن الحرم الشريف، وإخضاعه للجنة دولية, كما عرض تنازلات غير مسبوقة عن حييْ الأرمن والشيخ جراح. وفي وثيقة أخرى، شدد عريقات على أنه على استعداد أن يمنح إسرائيل أكبر يوراشاليم في التاريخ اليهودي.
إذن لا قدس موحد كعاصمة للدولة, فبعد التخلي حقيقة عن مضمون الدولة, كما ذهب قريع, جاء دور عريقات لتقديم تنازلات غير مسبوقة فيما يخص المقدسات, ووضعها تحت إشراف لجنة دولية للإدارة, مع بقاء السيادة عليها للسلطات الإسرائيلية, وهو ما يعني اعترافاً بهذه السيادة وتنازلاً مطلقاً عن القدس. وعن ملف اللاجئين وشكل الدولة الفلسطينية، عرض عريقات عودة عدد رمزي من اللاجئين ودولة فلسطينية منزوعة السلاح. وهذه آخر القضايا المصيرية التي تخص القضية الفلسطينية, وهي قضية اللاجئين؛ حيث حولها ساسة عباس إلى مجرد قضية رمزية, يمكن الانتهاء منها بصورة نهائية بالسماح لبضعة آلاف أو مئات من المشردين الفلسطينيين في الخرج بالعودة, ليس إلى ديارهم, ولكن إلى تلك المقاطعات الجغرافية التي يمكن السماح للسلطة بإدارتها. وعلى النقيض من هذه التنازلات المجانية والرخاوة التفاوضية من قبل السلطة الفلسطينية, اتسم الموقف الإسرائيلي بصلابة وحرصه على انتزاع أكبر كم من التنازلات المجانية في ظل مزاد مفتوح من قبل ثنائي السلطة عريقات - قريع, وبموافقة صريحة من رئيس السلطة محمود عباس. فالموقف الإسرائيلي بشأن القدس لم يتقدم ولو خطوة واحدة أثناء المفاوضات؛ حيث رفض الإسرائيليون مناقشة ملف القدس, وبحسب عريقات نفسه, كما تقول الوثائق, فإنه في مقابل العروض الفلسطينية، رفض الإسرائيليون مناقشة القدس التي تصر إسرائيل على أنها خارج دائرة التفاوض.وتؤكد ذلك وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في لقاء في 15 من يونيو 2008 مع قريع ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، قائلة "أخبرنا الفلسطينيين أننا لن نعوضهم عن أي أرض هي جزء من إسرائيل"، قاصدة بذلك القدس الشرقية التي كانت تل أبيب قد أعلنت ضمها للسيادة الإسرائيلية. وفي اجتماعات أخرى كانت ليفني تصر على أن القدس "هي العاصمة الموحدة وغير المقسمة لإسرائيل والشعب اليهودي منذ 3007 سنوات". يمكننا على ضوء هذه الوثائق وما نشر منها حتى الآن أن نخلص بمشهد مضمونة تنازلاً فلسطينياً عن القضايا المصيرية والمتعلقة بالوضع النهائي وهي ثلاث قضايا: الأولى: ملف الدولة الفلسطينية, والرضا بمجرد مقاطعات جغرافية منعزلة يطلق عليه عرفاً اسم دولة, وتكون منزوعة السلاح, وتضم مستوطنات يهودية خاضعة للإشراف والإدارة الإسرائيلية. الثانية: ملف القدس, حيث التنازل عن السيادة الفلسطينية والموافقة الضمنية بالسيادة الإسرائيلية, ومن ثم لا يمكن عملياً أن تكون القدس عاصمة لتلك الدولة المنتظرة, بل ستخضع المنطقة المقدسة في إدارتها للجنة دولية. الثالثة: ملف اللاجئين؛ حيث طمرت قضيتهم وباتت فقط رمزية, يمكن الانتهاء منها بعودة مئات أو بضعة آلاف للمقاطعات الفلسطينية.
أين القضية الفلسطينية؟
حقيقية لم تعد هناك قضية ولا قضايا مصيرية, عند رجال عباس, وهذا أكبر جرم ارتكبته هذه السلطة في حق الفلسطينيين, فبدلاً من التفاوض بخطوط واضحة, وسقف محدد, أصيبت القضية المصيرية بحالة من السيولة المفرطة, ولم يعد هناك ثابت إلا الإبقاء على السلطة ورجالاتها, وما عدا ذلك فهو قابل للتفاوض الذي هو مرادف للتنازل في المفهوم السياسي لرجال السلطة الفلسطينية. والجرم الثاني الذي ارتكبته هذه السلطة أنها زادت من الأطماع اليهودية, لعلمها المسبق بأن رجال هذه السلطة ليس لديهم خطوط حمراء, وأن ما يرفضونه علناً وراء الميكرفونات وأمام الصحافة ووسائل الإعلام, يقدمونه كورقة للتفاوض, ويزايدون فيما بينهم على تقديم المزيد من التنازلات بدعوى الواقعية السياسية. ولعل ذلك هو السبب الرئيس في رفض سلطة الاحتلال لكل ما يقدم لها من مقترحات من قبل رجال سلطة عباس, لتأكدها أن لديهم القدرة على المزيد من التنازل, وأن سقفهم بقاءهم في مناصبهم والحصول على الامتيازات وكروت VIP وفقط. والجرم الثالث لهذه السلطة، أنها أضاعت على الأجيال القادمة فرصة التفاوض من أرض صلبة؛ حيث بات عليهم أولاً أن يتغلبوا على الوقائع التي يسعى الاحتلال وبرضا السلطة على تثبيتها, ثم يعيدوا قضية الثوابت إلى الأذهان, وبعدها ينطلقوا للدفاع عنها, وسواء في ذلك قضية مقاومة الاحتلال الذي جرمته سلطة عباس, أو القضايا المصيرية الأخرى كحدود الدولة والقدس واللاجئين. إن تلك الجرائم والموبقات السياسية التي ترتكبها سلطة رام الله قد تفرض على المقاومة أن تعيد ترتيب أولوياتها على ضوء المخاطر المحدقة بالقضية ومستقبلها في ضوء وجود واستمرار هذه السلطة وممارساتها الهزلية.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
12:14 ص
حوارات
.