--------------------------------------------------------------------

المشاركات الشائعة

زوار المدونة

أحدث التعليقات

المتابعون

إحصائية المدونة

تعلقات القراء

إقرأ أيضا

|

نجم الدين أربكان.. صانع أسس تركيا الحضارية

عبد الباقي خليفة
(نجم الدين أربكان رحمه الله: فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم ولا للعرب وحدهم، وإنما للمسلمين جميعًا)
جنازة نجم الدين أربكانشيع ملايين الأتراك، ومن ورائهم المسلمون في أصقاع العالم، صانع نهضة تركيا الحديثة، ومحيي أسسها الحضارية العميقة، نجم الدين أربكان (1926م/ 2011م) يوم الأحد 27 فبراير 2011م عن عمر ناهز الـ 84 عامًا. وذلك بمشاركة الرئيس عبد الله جول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان، الذي قطع زيارة رسمية لأوربا لحضور جنازة "المعلم" والمؤسس للحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، ورفيق دربه رجائي طوقان. إلى جانب زعماء إسلاميين منهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، ورئيس حزب النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي، وممثلون عن حركة حماس، وزعماء إسلاميون، والكثير من العلماء والقيادات الإسلامية في العالم.
ومهما اختلفنا مع أربكان أو اتفقنا معه، فالرجل معروف بدماثة أخلاقه، وقدرته على التفكير الصائب، فعندما رأى بعض تلامذته تشكيل حزب موازٍ، لم يزد عن المطالبة بضرورة وحدة الصف، مع الاختلاف في الرُّؤى.
لقد بكى الكثيرون أتراكًا وغيرهم عند سماع نبأ وفاة الرجل الذي نظر حياته لخدمة بلده وأمته حتى وهو يصارع الموت، فقد نقل عنه -رحمه الله- أنه كان يوصي بكيفية التعامل مع المستجدات في البلاد الإسلامية، وتحديدًا تونس، ومصر، وليبيا.
ولا غرو، فإن نجم الدين أربكان هو من عمل على توطيد العلاقات مع البلاد الإسلامية، في وقت قطعت فيه العلمانية التركية أواصر البلاد الحضارية، سواء مع العرب أو غيرهم من المسلمين؛ فقد ساهم مساهمة فعالة جدًّا في تذويب الجليد بين الأتراك والعرب، وبين الأتراك وبقية المسلمين في العالم، من خلال إحياء الثقافة الإسلامية، ونشر اللغة العربية التي كان يفهمها جيدًا، وذلك قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء، وقبل أن يطاح به من قبل الجيش سنة 1996م، بدعوى تقويضه للنظام العلماني المفروض في تركيا، والسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية.
لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة رسالته، وفق المنظور الذي كان يؤمن به، وكان آخر عهده تأسيس حزب السعادة، الذي رغب أن يكون رافدًا لحزب العدالة والتنمية، الذي أصبحت له رؤيته الخاصة، في التفاعل مع موازين القوى في البلاد، مع العمل على تغييرها باستمرار وحسب الظروف لتتوافق مع الأهداف الحضارية للشعوب الإسلامية، التي فرقتها النعرات القومية والطائفية والمصالح الأنانية للغرب، وبعض الأطراف الداخلية الفاسدة، التي تفضل مصالحها الشخصية والفئوية والأسرية على المصالح العامة، والمرامي الاستراتيجية لطلائع الأمة الحضارية.
 أربكان.. حياة حافلة بالعطاء
نجم الدين أربكان صانع أسس تركيا الحضاريةهو نسل الأمراء السلاجقة، الذين عرفوا في تاريخ تركيا، وكان جده آخر وزراء ماليتهم وكانت أسرته تلقب بآل الوزير.
بدأ أربكان -رحمه الله- حياته بكل همة وجدّ، وكان متفوقًا في دراسته، فقد أنهى دراسته الثانوية في عام 1943م، ليلتحق بكلية الهندسة المكيانيكية، التي تخرج فيها سنة 1948م وكان الأول في دفعته؛ مما أهله لأن يكون معيدًا فيها. وفي 1951م أرسل في بعثة إلى ألمانيا لينال في 1953م شهادة الدكتوراه في هندسة المحركات.
وقد عاد إلى تركيا ليعمل أستاذًا في الجامعة، وابتكر محرك دبابات تعمل بكل أنواع الوقود. وفي 1965م كان عمره 29 عامًا، أي أصغر أستاذ جامعي في تركيا آنذاك، وهو أول صانع لمحرك ديزل لا تزال الشركة المصنعة تعمل على إنتاجه حتى الآن.
ولم يشفع له ذلك أمام الجهلة من العلمانيين الذين هاجموه لصالح ما وصفوه "بالإخوة الماسونيين" ضد "الإخوان المسلمين". وأصبح رئيسًا لاتحاد النقابات المهنية، ثم انتخب عضوًا في مجلس النواب عن مدينته قونية، لكنه منع من المشاركة في الحكومات المختلفة.
ويعد البروفيسور نجم الدين أربكان من أبرز الزعماء الإسلاميين في تركيا، وأشد من تحدى ظلم وظلمات العلمانية في بلد الخلافة العثمانية التي خطفت تركيا في غفلة من الزمن، وفي وقت كان فيه قلب البلاد الإسلامية وأطرافها تشكو ضعفًا شديدًا ومرضًا مزمنًا وغزوًا خبيثًا. أنشأ أربكان عام 1970م حزب النظام الوطني، الذي كان أول تنظيم سياسي يعلن بوضوح هويته الإسلامية، منذ ردة مصطفى كمال أتاتورك وحمله تركيا على الردة الشاملة سنة 1924م.
ولم تمض 9 أشهر حتى تم حل الحزب، بعد إنذار من قائد الجيش آنذاك محسن باتور، فقام أربكان بتأسيس حزب السلامة عام 1972م، وفاز بـ 50 مقعدًا؛ مما أهله عام 1974م من دخول الحكومة الائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، فكان بمنزلة موسى في قصر الفرعون.
وتولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء، وشارك رئيس الوزراء بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في نفس العام. ومن ذلك الحين أصبح التيار الإسلامي معترفًا به في تركيا عمليًّا. وكان أربكان واضحًا في مطالبه، وهو ما أجّج الحرب ضده من قبل خصوم تركيا الحضارية، حيث طالب -وبشدة- بتجريم الماسونية أو منعها في تركيا، وإغلاق محافلها المشبوهة، لا سيما وهو يعلم أنها وراء انهيار الخلافة العثمانية، إلى جانب الأسباب الداخلية.
وعمل على توسيع الاتصالات والانفتاح مع العرب والمسلمين، وتبني القضية الفلسطينية وإعلان عدائه للكيان الصهيوني الذي اغتصب الأرض وهجّر الشعب الفلسطيني واستولى على أراضيه، ودنّس مقدساته. ومن أقواله في هذا المضمار: "إن قضية فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم وليست للعرب وحدهم، وإنما هي قضية كل المسلمين". وفي عام 1980م تقدم بمشروع قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وحجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان؛ بسبب تأييده للكيان الصهيوني.
وبدا التغلُّل الصهيوني واضحًا في الجيش التركي، بعد قيام الجنرال كنعان إيفرين بانقلاب على الحكومة بعد تلك السلسلة من المطالب والإنجازات. وأدخل أربكان السجن حتى سنة 1983م حينما أسس حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في الانتخابات التي جرت في نفس العام، ولم يكن مستعدًّا لها، لكنه في انتخابات 1996م حصل على الأغلبية، وشكل الحكومة مع حزب الطريق القويم، برئاسة رئيسة الوزراء السابقة، تانسو تشيلر.
ويعدُّ أربكان أول من فتح المجال مع الشراكة الاستراتيجية مع العالم الإسلامي عام 1996م، حيث زار العديد من الدول العربية، وشكل مجموعة الدول الثماني الإسلامية، التي تضم أكبر 9 دول إسلامية. ولم يكن ذلك ضغطًا على الاتحاد الأوربي، وإنما توجهًا استراتيجيًّا لاستعادة المجد الحضاري للإسلام والمسلمين في العالم. أما على المستوى الشعبي والأيديولوجي عمل أربكان على تشكيل مؤتمر عالمي للقيادات الإسلامية؛ ولذلك تم حظر حزب أربكان سنة 1998م، فأسس حزب الفضيلة، الذي تم حظره في سنة 2000م.
وفي 2003م أسس أربكان حزب السعادة الذي كان سيخوض به الانتخابات القادمة، لكن المنية عاجلته، فرحمه الله ورزقنا وإياه الفردوس الأعلى في الجنة.. كما ناضل نجم الدين أربكان، وبقوَّة وعزم معروفين عنه، محاولات الجيش -متمثلة في قيادته السابقة- تغيير الأذان من اللغة العربية إلى التركية. وقدم الجيش التركي إلى أربكان -قبل إجباره على الاستقالة سنة 1997م، أي بعد عام واحد من توليه رئاسة الوزراء- 24 مطلبًا لتقوم الحكومة بتنفيذها لتفادي الانقلاب العسكري، ومن بينها أن يصبح الأذان باللغة التركية، وأن يتم حظره باللغة العربية، ولكنه رفض ذلك؛ مما دفع الجيش للقيام بانقلاب عسكري في 28 فبراير 1997م.
 الصراع مع الموت الحضاري
لقد ربح أربكان الصراع مع الموت الحضاري، الذي عرفته تركيا منذ قيام الجمهورية الكمالية سنة 1923م، فهو لم يكن موتًا سرمديًّا، وحتميًّا، كالذي استسلم له أربكان نهاية فبراير الماضي. وإنما صراع بآليات التدافع التي أتقنها إسلاميو تركيا، وحققوا من خلالها إنجازات عظيمة لبلادهم وللأمة. لقد وضعوا تجربة بلادهم السابقة في سياق تاريخي، حتمته ظروف الضعف التي انتابت الأمة الإسلامية، مع أفول شمس الخلافة الإسلامية رسميًّا سنة 1924م.
ثم تدرجوا في عملية التغيير المجتمعي، بما يحول دون صدامهم مع المؤسسات العلمانية القوية (سابقًا) كالجيش، والقضاء، والسلطة التنفيذية، وفروع كل ذلك في مؤسسات التعليم، وبقية مؤسسات الدولة. وهو ما يؤهل التجربة التركية لأن تكون نموذجًا يُحتذى في الكثير من البلدان التي شهدت تغولاً علمانيًّا بقوَّة الحديد والنار، والعمالة للغرب، وليس بالعلم والأفكار، التي بقيت العزاء الوحيد للحركة الإسلامية في تونس، ومصر، والمغرب، والجزائر، وموريتانيا، وليبيا، وغيرها من الدول المماثلة أو المشابهة لها.
وبالتالي ساهم أربكان، والحركة الإسلامية التركية في إيجاد نموذج يختلف عما تؤاخذ عليه نماذج أخرى كطالبان، والسودان، والجزائر. مع التأكيد على أن النموذج التركي للتغيير جاء من خلال المشاركة في الانتخابات، دون حاجة لخروج الجماهير للشارع كما هو الحال في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وعمان، والأردن، والبحرين، وغيرها.
لقد نجح أربكان في تجنب الصدام المباشر مع قلاع العلمانية المتصدعة في تركيا؛ مما يعطي نموذجًا حيًّا على كيفية إدارة عملية التدافع، من خلال كسب الخصوم أو الكثير ممن يقفون في صفوفهم إلى جانب المشروع الحضاري للأمة، وليس بزّهم أو إفحامهم، فتلك طريقة مريضة، ولا تؤدي سوى لمزيد من الشحناء والبغضاء وحقد الخصوم، مستخدمًا نهجًا قرآنيًّا فريدًا في التحدث للخصوم.. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
كما قدمت تركيا بأفكار أربكان، الحُجَّة على إمكانية استيعاب الإسلام للنظم الحديثة، وهو ما عمل الفاسدون المفسدون في البلاد العربية على الترويج لنقيضه، وهو أن الإسلام يحول دون ولاية الأمَّة، في حين هو النظام الوحيد الذي أكد على عدم شرعية أي حكم بدون تفويض حقيقي "لعن الله رجلاً أمَّ قومًا وهم له كارهون". وقد أصَّل الإمام مالك لهذا الأصل بالقاعدة الشهيرة (ليس على مستكره يمين)؛ أي لا شرعية للانتخابات المزورة، أو البيعة المدخونة. وبذلك يبرهن على مدنية الدولة في الإسلام، وعلى مرجعية الأمة في من يتولى حكمها.
لقد مكنت تركيا ذات التوجُّه الإسلامي الذي أسس له نجم الدين أربكان، من أن تؤدي دورًا محوريًّا، لم تكن لتقوم به لو بقيت على تطرفها العلماني، وهو دور يبدو واضحًا في المشرق الإسلامي، والمغرب الإسلامي، والبلقان، وأوربا الشرقية، بل في أوربا والولايات المتحدة، ومن بينها قضايا تحالف الحضارات، والسلام العالمي، والتوازن الدولي، والحكم الرشيد.
وهي الخصائص التي مكنت حزب العدالة والتنمية من تحقيق نتائج اقتصادية مذهلة، وعائدات تصدير تزيد على 70 مليار يورو سنويًّا، عكس نجاحها المتتالي في الانتخابات منذ 2002م، وحتى آخر انتخابات جرت في 2007م. وأصبحت تركيا في ظل العدالة والتنمية قوة عظمى، في حين كانت غارقة في فساد طبقتها السياسية، وديونها الأوربية، وتدخل عسكرها الفج في السياسات الداخلية والخارجية. ومن ثََم تمكن الإسلاميون في رفع الظلم جزئيًّا عن المحجبات في الجامعة، وعن الكثير من الممنوعات الظالمة، بما في ذلك حرية الإعلام، وتخليص مؤسسة مجلس الأمن القومي من دكتاتورية العسكر إلى مؤسسة مدنية، وتعميق أسس حقوق الإنسان، والتخفيف من غلواء التطرف القومي.
وقد ساعد التيار الإسلامي على تجذيره للإصلاحات الحضارية، حالة التديُّن العام في المجتمع التركي الذي مثل بدوره ضغطًا على الكتل الصماء التي أصبحت من مخلفات التطور؛ فسبعين في المائة من نساء تركيا يرتدين الحجاب، رغم التضييقات التي ساهمت بدورها في انتشاره.
وربما يكون أكبر إنجاز حققه الإسلاميون في تركيا، هو الجدال الدائر حولهم، وحول مدى إسلاميتهم. وهو لعمري ضربة معلم -كما يقال- وبكل المقاييس؛ فالألوان الفاقعة تثير ثيران الصراع الأيديولوجي، والمهووسين باللون الأخضر، بدل الأحمر في حلبة صراع الثيران الإسبانية والكولومبية.
ومن مآسي التطرف العلماني في تركيا، هو أن ضباط الجيش كانوا يطردون بتهمة التدين، مثل المقدم في الجيش التركي سابقًا كمال شاهين، الذي يروي في شهادته فصولاً تدمي القلب، فيقول: "كان بعض ضباط الجيش يخفون زوجاتهم وبناتهم المحجبات في المقعد الخلفي للسيارة، ويضعون فوقهن أغطية حتى يتمكنوا من عبور بوابات الأمن العسكري الموجود على مداخل منازلهم بالتجمعات السكنية العسكرية". ويضيف "كان الحال يصل ببعض الضباط إلى إخفاء زوجاتهم في المخازن الخلفية لسياراتهم، بينما كانت التحريات متواصلة حول عدم وجود أي توجه ديني لدى الضباط أو أسرهم".
وهكذا رحل أربكان، بعد حروب أهَّلته ليحمل لقب "المجاهد أربكان"، لم يسمِّ نفسه بذلك وإنما لقب توَّجه به شعبه، بعد أن نجح في أن يكون مهندسًا ناجحًا في محركات الديزل، ومهندسًا ناجحًا في هندسة الحركة الإسلامية في تركيا؛ فقد حوَّل الحركة الإسلامية من فئة مستضعفة إلى قوَّة ورقم يصعب تجاوزه، ويستحيل إفناؤه حتى لو حاول الجيش فعل ذلك.
فلا مجال للانقلابات بعد اليوم، وكما علَّمت الحركة الإسلامية في تركيا الكثير من الإسلاميين في العالم، فهي اليوم تستلهم نضالات الشعوب العربية في تونس، ومصر، وليبيا، وغيرها؛ من أجل افتكاك حقوقها ومنع الجيش من مصادرتها، مهما كلف ذلك من ثمن.
رحم الله أربكان، فقد خلَّد اسمه في سجل الصديقين، وتاريخ أمة تنهض من جديد، بعد سبات القرون.

قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين 4:10 م .

0 التعليقات "نجم الدين أربكان.. صانع أسس تركيا الحضارية"

شاركنا برأيك ولا تحرمنا من قلمك

الأرشيف