الجزية في الإسلام - الدكتور راغب السرجاني
حقوق كثيرة كفلها الإسلام لغير المسلمين في الدولة الإسلامية، ولكن أليس في مقابل هذه الحقوق واجبات؟!
في هذه الحلقة الجديدة من درس الثلاثاء لفضيلة الدكتور راغب السرجاني نعيش مع واجب من واجبات غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وهو واجب (الجزية)، وذلك بمسجد الرواس بالسيدة زينب 21 من يونيو 2011م.
أوضح فضيلته أن هناك من المستشرقين والكتَّاب من أخذ هذا الحق ووضعه في شكل شبهة أو يتهم به الإسلام والمسلمين، وتلقفها العديد من المستغربين من العلمانيين وغيرهم، ونقلوها على وسائل الإعلام ضمن حملاتهم في تشويه الإسلام. وهناك أيضًا من المستشرقين من أنصف وتكلم بحق، ووضع الأمور في مواضعها.
فما هي الجزية؟ وهل هي اتهام للمسلمين؟ وهل لو خرج مرشح للرئاسة في مصر وتكلم عن الحكم الإسلامي يتحرج من الحديث عن الجزية ويتهرب من الإجابة؟ أم هي شامةٌ كبيرة على جبين الأمة الإسلامية والتشريع الإسلامي والمسلمين الذين قبلوا أن يدفع المسلم أضعاف ما تدفع الأقلية من غير المسلمين؟
ذكر الدكتور راغب السرجاني أن الجزية من جزى يجزي، أي من أسدى لك معروفًا فجازيته به. فهي جزاء معروف معيَّن أُسدِي إليهم، فهم يدفعون جزاء هذا المعروف، إذ يدفعون جزءًا من المال. وهي مساوية لكلمة الضريبة، فهي ضريبة كأي ضريبة في العالم، يدفعها بعض اليهود والنصارى في الدولة الإسلامية.
وشدد فضيلته على كلمة (بعض اليهود والنصارى) وبيَّن أن 50 % من اليهود والنصارى لن يدفعوا، بل على الأقل قد لا يدفع أكثر من 75 %، وهذا يدل على منطلق الرفق والرحمة بالضعفاء، طالما أنهم ملتزمون بقوانين الدولة الإسلامية.
وتساءل الدكتور راغب السرجاني: هل هناك دولة في العالم ليس بها قانون ضرائب سواء في التاريخ أو الواقع بل والمستقبل؟
وأوضح فضيلته أن الضرائب شيء موجود في الدول مع اختلاف حجم هذه الضرائب، فهناك دول ترفع من قدرها، وهناك أخرى تخفض من قدرها، فكل دولة لديها نظام الضرائب. إذن فالأصل لا يختلف عليه أحد، والاختلاف في حجم الكمية للضرائب. وذكر فضيلته أن الدولة الرومانية كانت تفرض الضرائب على كل شيء في الدولة، بل على الميت، فلا يدفن الميت حتى تدفع ضريبة موته، حتى جاء الإسلام ورفع الظلم عن الناس.
وأوضح الدكتور راغب السرجاني أن دفع الجزية مقابل الدفاع عنه، فلا يلزم أبدًا في الدولة الإسلامية أن من يدفع الجزية يدافع عن الدولة، بل يُلزم المسلمون أن يدافعوا عنهم. وأوضح فضيلته أن غير المسلم لا يلزم المشاركة في القتال؛ لأن الجهاد في الإسلام قضايا دينية، فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وإن فشل المسلم في الدفاع عن غير المسلم سقط عنه الجزية، وإن أخذها وجب على المسلم حمايته.
وذكر فضيلته قصة فتح المسلمين حمص وأخذهم الجزية من نصارى حمص على أن يحميهم المسلمون، ثم حدثت ملابسات في القتال بين المسلمين والروم، فانسحب المسلمون من حمص، ولم يعد هناك حماية من المسلمين لنصارى حمص، فجمع أبو عبيدة بن الجراح أموال الجزية مع حاجة المسلمين الشديدة لها، وردَّ الجزية لهم مرة أخرى؛ مما أذهل النصارى أنفسهم ودفعهم أن قالوا: "والله أنتم أقرب إلينا من إخواننا، أعادكم الله إلينا".
ولكن من يدفع الجزية؟ وما مقدارها؟
ذكر الدكتور راغب السرجاني أن من يدفع الجزية "كل رجل عاقل صحيح غير معتزل الحياة للعبادة"، وأما مقدارها فاليهود والنصارى لا يدفعون نسبة من رءوس أموالهم، كما هو في فريضة الزكاة على المسلمين، وإنما يدفعون رقمًا معلومًا محددًا يحدده الوالي؛ ففي مصر -مثلاً- عندما فتح المسلمون مصر أخذ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الجزية بمقدار دينارين على كل يهودي أو نصراني، وأقره عمر بن الخطاب، وسُنَّة عمر -رضي الله عنه- تشريع للمسلمين "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
وفي مكان آخر أخذ عمر بن الخطاب مقدارًا آخر طبقًا لمعيار الغنى والفقر، فهناك شديد الغنى وهناك متوسط الغنى وهناك قليل الغنى، ومع أن الثلاثة مستويات هذه من الأغنياء إلا أن عمر -رضي الله عنه- فرَّق بينهم في الجزية، فالأكثر يسارًا كان يأخذ منهم 48 درهمًا في السنة، والأقل 24 درهمًا في السنة، والأقل 12 درهمًا في السنة، والفقراء لا يدفعون.
فالجزية يدفعها أهل الغنى والمال، بغض النظر عن رأس المال. وتلك عظمة الإسلام والتشريع الإسلامي، وهو تشريع في قمة الرحمة والرفق.
وفي حسبة يسيرة حول مقدار ما يدفعه غير المسلمين في مقابل ما يدفعه المسلمون، يتبين عظمة هذا التشريع؛ فنسبة ما يدفعه المسلم 2.5 % من رأس ماله، وأما غير المسلم فله نسبة محددة. فلو طبقنا ما شرعه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتبين أنه لو أن هناك مسلمًا يمتلك مائة ألف درهم وغير المسلم يمتلك نفس النسبة، نجد أن المسلم يدفع 2500 درهم زكاة، وغير المسلم يدفع 48 درهمًا جزية. وهكذا لو يمتلك المسلم مليون جنيه وغير المسلم مليون جنيه، نجد أن المسلم يدفع 25 ألف جنيهًا زكاة، وغير المسلم 48 جنيهًا جزية.. وهكذا.
وأشار الدكتور راغب السرجاني أن مقدار هذه الجزية في مقابل عقد ولاء وانتماء ومواطنة بين غير المسلمين والدولة الإسلامية. وأوضح فضيلته أن ما ذكره في المحاضرة عن قضية الجزية موجود في التشريع الإسلامي الذي فتح المسلمون به العالم كله، وأسقط به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بلاد كسرى وقيصر وفتح الدنيا كلها، وأنه على فقهاء القانون الآن أن يوظفوا هذا التشريع في قانون الدولة الحديثة.
وذكر فضيلته أن حديثه عن قوانين غير المسلمين في الدولة الإسلامية ليست على قدر الحصر، بل نفتح -فقط- أبوابًا ونتكلم عن رءوس أقلام، فهناك تفصيلات كثيرة جدًّا تحتاج إلى دقة وشيء من التفصيل.
وبيَّن أن المنطلق لأحكام غير المسلمين في الدولة الإسلامية عدة أمور، أوَّلها الرفق في المعاملة، وهذا ليس فيه شيء من التكلف، فهذه طبيعة الشريعة الإسلامية أنها كلها رفق وعدل. وذكر فضيلته أن الرفق هو أصل أخلاقي لا تنازل عنه في الإسلام.
وبيَّن الدكتور راغب السرجاني أن المنطلق الثاني هو تكريم بني الإنسان بشكل عام، والمنطلق الثالث هو تأليف القلوب، والمنطلق الرابع هو الرحمة مع الأقليات. فهذه المنطلقات هي التي أفرزت هذا القانون الرفيق الرحيم بغير المسلمين.
كما تناول فضيلته الحديث عن حملة المليون توقيع لإسقاط الأحكام الظالمة عن الدكتور وجدي غنيم، وأوضح فضيلته أن الحكم على د. وجدي غنيم هو حكم فاسد ظالم، وبسقوط النظام الظالم الفاسد يسقط هذا الحكم. وطالب فضيلته برفع الحكم فورًا عن الشيخ وجدي غنيم؛ لما يحمل الشيخ وجدي غنيم من مكانة رفيعة بين المسلمين، ولما له من جهود كبيرة في نشر دعوة الإسلام من اليابان إلى أمريكا.