شريف عكاشة * بينما يناقش البرلمان الفرنسي مشروع قرار يقضي بحظر النقاب أو كما جاء في هذا النقاش "إخفاء الوجه" في الأماكن العامة وسط تأييد واسع على المستوى الشعبي وعلى مستوى النخب السياسية في فرنسا، تثور في الذهن عدة تساؤلات لعل من أهمها: هل مثل هذا الحظر هو حالة فرنسية خاصة أم أنه توجه عام في الغرب ستنتقل عدواه حتما إلى باقي الدول الغربية؟ وإذا كان الأمر كذلك فأي هذه الدول أكثر قابلية للتأثر بالنموذج الفرنسي من غيرها ؟ تختلف الدول الأوروبية من حيث نوع ودرجة استجابتها لقضية حجاب المرأة- والذي يعتبر النقاب حالة خاصة منه- اختلافا يسترعي الانتباه ويستدعي التأمل والدراسة. ومما لاشك فيه أن الزخم الإعلامي الدائر حول حجاب الوجه هو زخم فرنسي المنبت له جذوره البعيدة في الثقافة الفرنسية وعلله القريبة في مجريات الأحداث على الساحة الشعبية والنخبوية في فرنسا في العشرين عاما الآخيرة. وقبل الشروع في تحليل الحالة الفرنسية والفرق بين فرنسا وجاراتها الأوروبية في هذا الصدد يمكن القول بوجه عام إن غطاء الرأس يمثل لدى الغرب رمزا لاستعباد الرجل الشرقي للمرأة وتهميشه لدورها حيث لايراه عامة الناس وكثير من المثقفين في السياق الغربي على أنه واجب ديني وإنما على أنه فريضة ذكورية تمثل تحكم الرجل في المرأة باسم الدين في المجتمعات الشرقية ومن ثم فهو ظاهرة سلبية يجب منعها من التسرب إلى المجتمعات الغربية. وإذاكان غطاء الرأس يحرك مثل هذه المشاعر لدى الإنسان الغربي فمن الأحرى أن يكون النقاب أو "البرقع"، كما يطلق عليه في أوروبا، أكثر تحريكا لمثل هذه المشاعر. وعلى مستوى النخب السياسية يحمل الحجاب بوجه عام والنقاب بوجه خاص أبعادا سياسية هامة فيما يتعلق بدور الدين في المجال العام، ذلك الدور الذي قامت العلمانية الأوروبية بتهميشه وتحييده منذ ردح بعيد. فرجال الفكر والسياسة بالدوائر الغربية يدركون الدور التاريخي للمرأة في نشر الأديان: فقد كانت أول من آمن بنبي الإسلام وآزره هي زوجته خديجة، وبالمثل كانت أول امرأة تؤمن بالمسيح وقيامته في العقيدة المسيحية هي مريم المجدلية. وعقب أحداث 11 سبتمبر تضاعفت أعداد معتنقي الإسلام من النساء بنسبة أربعة إلى واحد مقارنة بالرجال كما تشير أحدث الإحصائيات. وتلعب هؤلاء المعتنقات حديثات العهد بالإسلام دورا كبيرا في الوقت الحالي في نشر الإسلام والترويج للقيم الإسلامية، و ترتدي معظمهن الحجاب أو النقاب ويدافعن عن ارتدائه دفاعا مستميتا. بداية الجدل لقد بدأ الجدل الفرنسي، ومن ثم الأوروبي، حول الحجاب في عام 1989 عندما صدر قرار بمنع ثلاث فتيات بإحدى المدارس الثانوية بمدينة كريل الفرنسية من ارتداء الحجاب. وقد تزامن ذلك مع الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة الفرنسية ومبادئها. وهذا التاريخ له مغزى، إذ أن من مباديء الحركة التنويرية الأوروبية التي صعدت على أكتافها الثورة الفرنسية الشفافية المطلقة ومن ثم فإن حجاب المرأة الجزائرية مثلا-كما تقول عالمة الاجتماع الأمريكية المعاصرة "ميدا يجينوجلو" كان يمثل تحديا لهذا الفكر بالنسبة للمستعمر الفرنسي، مما كان يدفعه دائما إلى محاولة استكشاف جوانب هذه المرأة من خلال نزع هذا الحائل الذي يحول بينه وبين معرفة جوهرها هذا النزوع إلى الشفافية أكد عليه ساركوزي في عام 2003 حينما كان وزيرا للداخلية، في خطاب ألقاه أمام مؤتمر المنظمات الإسلامية في فرنسا شدد فيه على استمرار منع الحجاب متعللا بضرورة ذلك بالنسبة لبطاقات الهوية التي تصدر في فرنسا حيث لايسمح أيضا للراهبات الكاثوليك بارتداء الحجاب في الصور الفوتوغرافية الخاصة ببطاقات الهوية. والجدير بالذكر أن هذه القاعدة هي انفرادة فرنسية بحتة، ففي إيطاليا مثلا يسمح للراهبات الكاثوليك بتغطية الرأس في صور بطاقات الهوية وقياسا على ذلك يسمح للمسلمات بارتداء الحجاب في مثل هذا السياق. وفي عام 2004 صدر قانون بحظر الحجاب في المدارس الفرنسية بتأييد من الرئيس شيراك وبأغلبية برلمانية كاسحة. ورغم ذلك لم ينته الجدل حول هذا الموضوع داخل المجتمع الفرنسي، ويمكن القول إنه على الصعيد العملي لم ينجح المخطط الحكومي تماما، فقد قبل الفرنسيون الكاثوليك الفتيات اللائي تم طردهن من المدارس الحكومية في مدارسهم الخاصة متهمين القائمين على التعليم في فرنسا بالطائفية. لماذا فرنسا؟ والآن يحق لنا أن نتساءل: لماذا فرنسا بالذات؟ لماذا لايمثل حجاب الرأس أو الوجه نفس المشكلة بالنسبة للنساء المسلمات في دول أوروبية رئيسية مثل انجلترا وألمانيا؟ يبدو لنا أن ثمة صراع حضارات خفي يكمن وراء اختلاف ردة الفعل حول هذا الموضوع بين فرنسا وكل من إنجلترا وألمانيا، يتمثل في الاختلاف بين العقلية اللاتينية التي تتشبث بمبادئها وتحيزاتها الثقافية مهما طال الزمن واختلفت الظروف والعقلية الأنجلوساكسونية البراجماتية التي تحركها المصالح قبل الأيديولوجيات. وليس معنى ذلك أن فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تضع قيودا على حرية الزي بالنسبة للمرأة المسلمة، فهنالك حالات مماثلة للحالة الفرنسية في ألمانيا وبلجيكا وهولندا إلا أنها لا تتميز بذلك التصعيد المحموم الذي تميز به الحراك الفرنسي ضد الزي الإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن "جماعة دعم النقاب" المنتشرة حاليا في أوروبا والتي تبث أفكارها بصفة أساسية عبر الإنترنت هي جماعة مكونة من مسلمات أوروبيات اعتنقن الإسلام حديثا ومعظمهن من الألمانيات والهولنديات. وبالنسبة لباقي الدول الأوروبية يتوقع أن تمتد عدوى حظر النقاب إلى الدول الإسكندنافية بوجه خاص في المرحلة القادمة امتدادا لتيار العداء نحو كل ماهو إسلامي في تلك الدول. وهو عداء تكمن وراءه دوافع اقتصادية أكثر منها عرقية أو ثقافية حيث شهدت هذه الدول إقبالا غير مسبوق من النساء على اعتناق الإسلام إذ جذبهن إعلاء الإسلام من قيمة الأسرة ودور المرأة المحوري في تربية الأبناء وبناء نواة المجتمع. وقد أدى ذلك بهن إلى ترك العمل من أجل التفرغ لهذه الرسالة، مما أحدث فجوة كبيرة في سوق العمل الذي يعتمد بنسبة كبيرة على عمالة المرأة في تلك الدول. المسلمة الأوروبية والحجاب يبقى لنا أن نتساءل: ماذا يمثل غطاء الرأس أوالوجه بالنسبة للمرأة الأوروبية المسلمة التي لا يربطها أي رابط عرقي أوثقافي بالمجتمعات الشرقية المحافظة؟ تجيب الدراسات الحديثة حول هذا الموضوع بأن عامل الهوية يلعب دورا كبيرا في ارتداء الأوروبيات المسلمات للحجاب رغبة منهن في تأكيد هويتهن الدينية التي تميزهن عن باقي المجتمع. ومن خلال بعض المقابلا ت التي تمت مع نساء كنديات مسلمات صرحت بعضهن بأن الحجاب هو عنصر تحرير وليس تقييد حيث يجبر الرجل على تقييم المرأة من خلال سماتها الشخصية والعقلية فقط وليس على أساس مقاييس جسدية. وهذا في رأيهن يحرر المرأة من ربقة النظرة التقليدية لها باعتبارها جسدا في المقام الأول. ومن الواضح أن انتشار هذا الوعي الجديد بين النساء في أوروبا من شأنه أن يمثل تحديا جوهريا للثوابت التي قامت عليها الحداثة الأوروبية مما قد يهددها بأزمة متوقعة. ولاينبغي أن نتوقع أن مثل هذه الأزمات الثقافية الكبرى سوف تحسم بسهولة نظرا لارتباطها بالأسس المرجعية التي تقوم عليها الحضارات. |