الاعتداء في الدعاء بدعة رمضانية
رمضان له روح خاصة، تحمل المسلم الصادق حملا على الاجتهاد في الطاعة والاغتراف من الخير، لكن بعض أهل العلم والدعوة فشا بينهم أمران في حاجة إلى مراجعة، حتى تكون العبادة منضبطة بالشرع، وسائرة على هدي الكتاب والسنة، وهذان الأمران يكثران في رمضان وإن كانا لا يختصان به وحده، وهما: الأمر الأول: الاعتداء في الدعاء.
والثاني: القراءة من المصحف للإمام والمأموم في الصلاة ونظرا لأهمية الأمرين معا، فقد أفردنا لهما هذا المقال.
ونبدأ بالأمر الأول
الاعتداء في الدعاء
لا شك أن للدعاء شروطا وآدابا ينبغي الالتزام بها كلها حتى يحقق الدعاء مقصوده من القبول والاستجابة، والذي يعنينا هنا الإجابة عن هذا السؤال لعموم الحاجة إلى بيانه: ما الاعتداء في الدعاء؟
فنقول: وردت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين" قال القرطبي في (تفسيره 7/226): يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاما".
كما أخرج الإمام النسائي وأبو داود وأحمد وصححه ابن كثير أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم.
وأخرج ابن ماجة في سننه (حديث رقم 3854): أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال أي بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار، فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء". وقد علق القرطبي رحمه الله (في تفسيره 7/226) على هذه الآية، وعلى حديث ابن ماجة بقوله: "والاعتداء في الدعاء على وجوه؛ منها الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك، ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مقفرة –أي خالية من المعاني المحبوبة– وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسوله وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء".
ونستطيع أن نقول بعد ما تقدم أن الاعتداء في الدعاء له صور كثيرة منها:
1- الإطالة الشديدة والتفصيل بلا داع :
وهي آفة عمت بها البلوى: إذ درج كثير من الأئمة على أن يدعو في الوتر كل ليلة دعاء طويلا ربما يربو على ساعة كاملةٍ أو أقل قليلا! يظل يفصل فيها في دعائه، مثل أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من النار ولباس أهلا لنار، وطعام أهل النار".. إلخ، "اللهم إني أسألك الجنة وأنهار الجنة وأطيار الجنة والحور العين في الجنة".. إلخ. ولا شك أن الحديثين المتقدمين ينهيان عن مثل ذلك، فالسنة الدعاء بجوامع الأدعية كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: )كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك] (أخرجه أبو داود حديث رقم 1367).
ومن التفصيل أيضا ما يدعو به بعض الناس لجميع من يعرفونهم فيقولون: "اللهم اغفر لأبنائنا وآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا وأخوالنا وخالاتنا وأعمامنا وعماتنا" ويمضي أحدهم يعدد أقاربه ثم جيرانه ثم أصدقاءه، وكان يكفيه الإجمال.
2- تكلف السجع:
فإن بعض أئمة زماننا –الذين عرف عنهم حسن الصوت– يستعدون لرمضان باصطناع بعض الأدعية التي يبدو السجع فيها متكلفا، ويمرنون ألسنتهم على الدعاء بطريقة تطرب لها النفوس ولا شك أن الدعاء في هذه الحالة يقل فيها الإخلاص، وقد يؤدي إلى الرياء والسمعة، نسأل الله العافية؛ لأن الأصل في الدعاء الانكسار والذلة والإلحاح على الله. والإخبات والإنابة والتضرع دون تغن أو تطريب، فقد صار كثير من العامة يقبلون على الاستماع إلى أشرطة الدعوات ولا سيما ليلة الختام، لا لشيء –في الغالب– إلا ليستمتعوا بحسن الصوت، وليطربوا بحسن الإيقاع والألحان والسجع، حتى إن كثيرا من سائقي عربات الأجرة والميكروباص وجدوا في مثل هذه الأشرطة بغيتهم لقطع ملل المسافات البعيدة، والترفيه عن المسافرين، وكأنها صارت بديلا شرعيا عن الأغاني الهابطة مما يتنافى مع الغرض من الدعاء.
3- المبالغة في رفع الصوت:
جاء في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري قال كنا مع رسول الله في غزة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نعلو شرفا ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سمعيا بصيرا.
إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ونحن الآن –بفضل الله تعالى– في عصر مكبرات الصوت وهي نعمة كبرى ولذا فيجب ألا يرفع أئمة المساجد أصواتهم إلا بقدر ما يسمعه المصلون، ولا داعي للتزيد في رفع الصوت فإنه رعونة وإيذاء، وباب للرياء، وقد وجدناه في أزماننا هذه أئمة يتعمدون هذا بطريقة مبالغ فيها، مما يؤدي أحيانا إلى تهييج مشاعر المصلين، فربما تلفظ أحدهم بلفظ يبطل صلاته! والحكايات عن أمثال هؤلاء أكثر من أن تحصر فينبغي التحرز والالتزام بالسنة.
4- الدعاء بأمور غير جائزة:
عن أنس "أن رسول الله عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (صحيح مسلم حديث رقم 4853).
ومن ذلك، أن يدعو طالبا معصية، كأن يطلب تيسير سرقة أو غصب!
ومن ذلك: الدعاء بمحال. كأن تكون له منزلة نبي، أو يدعو بأن يمسخ الله قوما قردة.. إلخ.
5- أن يكون أكثر الدعاء بغير المأثور:
إذا كان الدعاء في الصلاة، فإن كثيرا من أهل العلم ومنهم الأحناف وأحمد لا يجيزون الدعاء بما يشبه كلام الناس، مثل: اللهم أقض عنا ديوننا، اللهم أرزقنا طعاما طيبا.. (انظر الدين الخالص 2/ 261)، واستدلوا على ذلك بحديث: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (صحيح مسلم برقم 836).
وقال المالكية والشافعية: يجوز لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود في التشهد: "ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه" (رواه السبعة).
ولذا فإن الأفضل –خروجا من الخلاف– أن نقول كما قال الغزالي: "والأولى ألا يتجاوز الداعي الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدى في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته". (الإحياء: 1/341).
ولكن لكل أن يدعو بما تيسر له إن عجز عن الدعاء بالمأثور.
ولا ريب أن مما يدخل في باب الاعتداء أن يزيد الداعي في دعائه مواعظ تتعلق بذكر القبر وما يقع فيه من عذاب، والصراط، والبعث، والجنة والنار، إذ الدعاء ليس محل هذا الوعظ والتذكير.
كما أن تحويل الدعاء إلى حوار بين الداعي وجمهور المصلين شيء مستحدث لم نسمع أن أحدًا من السلف فعله، وهذا من البدع المستنكرة.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
9:13 م
مقالات الدكتور منير جمعة
.