إطلالة على رجل عظيم (د.منير جمعة)
الرجال لا تحملهم الأقدام ، وإنما تُسيّرهم الهمم والعزائم ، وإن أعظم ما تُبتلى به الأمم فقْد رجالها الكبار ،وصدق القائل :
ألا ليس الرزية فقدُ دارٍ ***ولا شاة ٌ تموت ولا بعيرُ
ولكنَّ الرزية فقْدُ حُرٍ ***يموت بموته خلقٍ كثيرُ
ولذا فقد حزنت ، وانتابنى ألم عاصرٌ، حين علمت بوفاة شيخنا الجليل عبد البديع غازى ـ برد الله مضجعه ـ ليس بسبب الفراق فحسب ؛ بل لتوقف هذا العطاء الفياض فى وقتٍ قلّ فيه المنتجون والمبدعون ، وازدادت حاجة الأمة إلى الدعاة الأثبات وإلى الله المشتكى ، وبه وحد تستدفع البلايا ! وليس فيما أقوله شىء من المبالغة ذلك أن الراحل الكريم كان يمثل (الرجل المؤسسة) ، وهو نموذج نادر لرجل الدعوة الذى يدرك مسئوليته التاريخية ، ويعى أن دوره لا يقوم به غيره ، وأن النقص الرهيب فى الكوادر المؤهلة ، والإمكانات المتاحة ، تجعل من الإثم أن ينسحب الإنسان إلى عالمه الخاص ، وإلى مصالحه الضيقة متذرعًا بذرائع ٍ شتى قد تنطلى على بعض الناس ، ولكن الأمر كما قال زهير : ومهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ***وإن خالها تخفى على الناس تُعلمُ المضحون بأموالهم وجهدهم وأوقاتهم إذن قليل ،ولكنهم وحدهم الذين يصنعون أحداث التاريخ ، وهم وحدهم الذين يجرون قاطرة البشرية للأمام ، وأينما وجد هؤلاء فقد وجدت معهم أسباب النجاح جميعا،وقد جاء فى الحديث المتفق عليه :الناس كإبل مائة،لا تكاد تجد فيهم راحلة، وقد عرفت الراحل الكريم منذ ما يقرب من ربع قرن ،وأحسبه والله حسيبه واحد من هؤلاء الرواحل الكبار،فقد كنت لا أزال فى مَيْعَةِ الصبا ،حينما استمعت إليه لأول مرة و كِدْتُ أقول : يا له من ملكٍ كريم ! ثم جائتنى أخباره تثرى ، فإذا هو يثب وثبات عملاقة ، وينتقل فى مجال الخير من طور إلى طور ، ويقوم بما تنوء به العصبة أولو القوة ، ويحول (مجد الإسلام ) من مجرد مسجد للصلاة إلى مركز إشعاع دعوى وفكرى واجتماعى ، وينشئ فيه معهدًا لإعداد الدعاة ، لتوريث ذلك الهم والعبء الجميل : همّ دلالة الخلق على الحق ، وإعداد رجال يحملون الإسلام ولا يحملهم الإسلام ،إلى جوار كفالة آلاف الأيتام ، ومساعدة المعوزين ، وإصلاح ذات البين ، مع الخطابة المؤثرة ،والدروس النافعة وعقد المؤتمرات فى المناسبات المختلفةـ وبخاصة فى شهر شعبان من كل عام ـ والتأليف بين الفينة والفينة ،فجمع بذلك الخير من أطرافه. وكان اللافت فيه ـ فوق هذا كله ـ سماحة المؤمن التى لا تخطئها عين على محيّاه دائمًا ، والوداعة البادية على قسمات وجهه، والوسطية فى نظرته ودعوته ،والفهم العميق الطيب للدين ، وحسن العرض بطلاقة وترابط وانسجام يأخذ بألباب مستمعيه ، فيذعنون له . وقد شاءت إرادة الله أن يقوم هذا الداعية الموفّق بإعداد كتاب فى العقيدة ،بعنوان: (أإله مع الله )ومراجعة طباعته ، حتى إذا انتهى من ذلك فاضت روحه ، قبل أن يرى كتابه فى شكله النهائى ! وكأن الله عز وجل ينبهنا إلى أن نقوم بواجبنا إلى آخر نفسٍ فينا ، ثم نترك نتيجة سعينا له سبحانه (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .وأن سعيه سوف يرى .ثم يجزا الجزاء الأوفى)(النجم 39:41).
يكفينا ـ إذن ـ أن نضع لبنة فى صرح المجد ، وليس علينا أن نتم البناء ؛ فلكل أجل كتاب .وقد رأيت فى ذكراه الأولى أن أكتب هذه الكلمات بعد أن وجدت إحجام تلامذته غفر الله لهم عن التعريف به،والتنويه بفضله، وبخاصة بعد أن رغب إلىّ إخواننا الأحباب القائمون على أمر نشر كتابه الفريد لأكتب مقدمة لهذا الكتاب تعرّف به وبصاحبه ،فاستسمنوا بذلك ذا ورم ، غير أنى أجبتهم لطلبتهم ـوإن كنت مقرًّا بأنى لست لذلك بأهل ـوفاءً لهذا العملاق ، فإنى وجدت أقزامًا يحاولون أن يقوموا بأقزامٍ مثلهم ، وتذكرت قول الشاعر:
وبقيت فى خَلَفٍ يُزيّن بعضهم ***بعضًا لِيَدْفَع مُعْوِرٌعن مُعْوِرٍ
أليس حريا بنا أن نقوم برجل عاش حياته كلها للإسلام ، وما شابت حياته الدعوية ـ فيما نعلم ـ شائبة ، وترك خلفه آثارًا ستكون لسان صدقٍ له ـ بإذن الله ـ فى الآخرين وأما الكتاب ، فهو كتاب فى العقيدة ، التى كان القدماء يطلقون عليها (الفقه الأكبر) أو مباحث الإيمان ، وقد آثر المؤلف مصطلح (التوحيد) وهو مصطلح واضح مؤثر ، يدل على المطلوب مباشرة ,وقد اعتمد المصنف التقسيم الثلاثى للتوحيد (ألوهية ، وربوبية , وأسماء وصفات ) ولم يترك شيئًا من الفرائد والشوارد إلاتعرض له . وهذا التقسيم الثلاثى للتوحيد ، وإن لم يتعرض له العلماء الأقدمون ؛وتوجس منه بعض المعاصرين فإنه مقبول ـ للتعليم والدراسة ـ لا على أساس أنه هو العقيدة نفسها ، أو جزءٌ منها ،كما يظن كثير من المتدينين، فإنك لو سألت عنه أكثر المسلمين الموحدين لما عرفوه ، وأكثرالنسوة العجائز ـ اللائى ود كثير من علماء الكلام أن يموتوا على اعتقادهن ـ لم يسمعن عنه أصلًا , ولا يقدح ذلك فى إيمان هؤلاء ولا أولئك ، لأن أركان الإيمان الستة ـ إجمالًا ـ متوافرة , والحوض ملآن ،والروضة أنف ،ولله الحمد . والكتاب على الرغم من تناوله لمسائل عويصة وخطيرة , فإنه يعرضها بأسلوب مشرق سلس , لا يدع القارىء يفلت من شباكه لحظة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ،والمسائل الخلافية ـ فى فروع العقيدة ـ يختار منها المؤلف رأيا ويرجحه ، ويبين تهافت رأى مخالفيه من دون تجريح أو شطط . وأسلوب الكاتب ـ عمومًا ـ أسلوب إيمانىٌّ يدل على نفس ٍ سوية ، مؤمنة بما تكتب عنه أشد الإيمان , ولذا فإن قراءة ـ ولو سريعة ـ لهذا الكتاب كفيلة بزيادة الإيمان فى نفس القارئ , وإزالة كثير من الشبهات ،بعد أن جعلها المؤلف تتضاءل افتضاحا , فقد كان مهموما بتصحيح التصور والاعتقاد , ومحاربة البدع والخزعبلات , والأفكار الفاسدة , وهو يمر على كثير من المصطلحات فيقرّبها للقارئ بأسلوبٍ رفيق تعليمى نافع ، وليس عنده جنوحُ من يدعون أنهم (مفكرون) ،ولا شطط الفلاسفة ,ولا ألغاز علماء الكلام . إنه عذبٌ زلال , ليس عليك إلا أن تكرع من سلسبيله ,وأن تعبّ ـ ما استطعت منه ـ عبًّا , فقلّما تمرّ فى العقيدة بكتاب يجلّى منهج السلف مثل هذا الكتاب . وقد أعجبنى اعتدال مزاج الكاتب وهو يتحدث عن أهل السنة والجماعة بعد حديث مقتضب عن نشأة الفرق الإسلامية , وقد بنى بحثه على أساس أن مصطلح ( أهل السنة ) يطلق على فرق ثلاث : الأثرية , والأشعرية , والماتريدية , ونافح عن الإمام الأشعرى منافحة عظيمة , ونقل عن الإمام ابن تيمية ما يؤيد قوله , وأكد أن الماتريدى من أئمة أهل السنة والجماعة , وهذا كله كلام فى قمة الاعتدال والتسامح قلّ نظيره الآن ؛ فتنبه ! غير أننا نقول إنصافًا , إن أمر التأويل والموقف الشرعى منه كان بحاجة لعرض أطول , وتفصيل أكبر ؛ لأنه ضلّت فى الحكم عليه أفهام , وزلّت فيه أقدام ، والكمال عزيز . وقد استوقفتنى قائمة المراجع بتنوعها النادر , فإننا نجد اليوم استقطاباحادا تسلل إلى أهل العلم ـ نجا شيخنا من شركه ـ إذ تجد أن من يأخذون عن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز وابن العثيمين والألبانى لا يأخذون ـ وربما يحرمون الأخذ ـ عن سيد قطب وسيد سابق والغزالى والقرضاوى و محمد المسيّر ووهبة الزحيلى والبوطى والزندانى , لكن المؤلف جمع فى مصادره بين كتب هؤلاء وهؤلاء , فلله دره،ما أوسع فقه! إن المؤلف ـ رحمه الله ـ ينتصر ـ ونحن معه ـ لعقيدة السلف بلا تردد , لكنه يترفق مع المخالفين , ويحسن بهم الظن , ولا يحكم عليهم بفسق ولا ابتداع ـ كما يفعل غيره ـ وهو أدب عالٍ نحتاجه بشدة فى أيامنا هذه . وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه أبو هريرة ـ حين قال :" يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله :ينفون عنه تحريف الغالين , وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين" (أخرجه أحمد وبعض أصحاب السنن ,وصححه الذهبى و أحمد شاكر و الألبانى ). ورحم الله شيخنا رحمة واسعة , وجعل كل هداية وإرشاد , وكل زيادة فى الإيمان ناشئة عن قراءة كتابه فى ميزان حسناته , إنه ولى ذلك والقادر عليه .
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
2:02 ص
مقالات الدكتور منير جمعة
.