1:58 ص | كتبت بواسطة قبسات أون لاين
|
في كتابه الجليل (الذريعة في مكارم الشريعة) يشير الإمام الراغب الأصفهاني إلى ما نسميه اليوم فقه الأولويات بقوله: لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؟ ولهذا قيل لا يستطيع الوصول من ضَيَّع الأصول.. فمن شَغَلَهُ الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار الله تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) سورة النَّحْل الآية (90).
فما هو هذا المصطلح، وما حاجة المسلمين إليه وكيف يتم تطبيقه؟ سنحاول الإجابة عن كل تلك الأسئلة فيما يلى : تعريف الأَوْلَى وَرَدَتْ لفظة (أَوْلَى) بصيغة الإفراد إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم، أما معناها لغة: فاسم تفضيل، ينحصر استعماله اللغوي في معنيين : الأول: بمعنى أَحَقّ وأَجْدَر، والثاني: بمعنى أَقْرَب. غير أن هذا المعنى الثاني يرجع في أصله إلى المعنى الأول، فقد جاء في معجم (لسان العرب): يقال: فلانٌ أولى بهذا الأمر من فلان، أي أحق به، وفلان أولى بكذا، أي أحرى به وأجدر، وفي الحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر" (البخاري، انظر الفتح 12/11) أي أدنى وأقرب في النسب من المورث، ولمادة "أولى" استعمالات أُخَر، لكنها لا تخرج في مجموعها عن المعنى الأصلي الذي هو الأحقية، ومنها أَوْلاه على اليتيم: أَوْصَاه عليه، وأولاه معروفا: أسداه إليه، وأَوْلَى فُلانًا الأمر: جعله واليًا عليه، وأَوْلَى لك: كلمة تهديد ووعيد، أي: قاربـك الشر فاحذر، ومنه قوله تعــالى:(ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (ســورة القيامة الآية 35) وأولويّة : مصدر صناعي، جمعه أولويات، يقال: له الأولوية في كذا، أو الأحقية، والأولوية نسبة إلى الأولى. وأما معنى الأولويات اصطلاحًا فهو: احترام مراتب الأعمال الشرعية، بتقديم الأهم منها على المهم، ووضع كل عمل في موضعه وإطاره الشرعي، "إذ لكل عمل مأمور به، أو منهي عنه وزن معين في نظر الشارع بالنسبة لغيره من الأعمال، ولا يجوز لنا أن نتجاوز به حدّه الذي حده له الشارع، فنهبط به عن مكانته، أو نرتفع به فوق مقداره أما تعريف فقه الأولويات فهو "العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها" وهذا يعني أن تقديم حكم على آخر يتطلب : أ- الفقه بأحكام الشرع وبمراتب هذه الأعمال، وبالقطعي منها من الظني، وبالأصل منها من الجزء، وبالكبير منها من الصغير، وبعبارة موجزة: العلم بالخريطة الشرعية للأحكام. ب- العلم بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم على آخر في حالة التزاحم، أو في غير حالة التزاحم . ج- العلم بالواقع والظروف التي يتحرك فيها المسلم . وعلى هذا فما أصدق ما قاله ابن القيم حين دعا المفتي إلى نوعين من الفهم: "أحدهما فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني هو: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر". مظاهر غياب فقه الأولويات : 1- الانشغال بالفروع عن الأصول: مثل الانشغال بحكم تحريك الإصبع في التشهد، والبسملة في الصلاة، وطريقة الهويّ إلى السجود هل نقدم اليدين أم الركبتين... إلخ. وعدم الانشغال بالقضايا الملحة، كقضايا تصحيح تصور المسلم عن الله عز وجل، وقضايا إصلاح الفساد ومقاومة الاستبداد، وتبعية الأمة لغيرها اقتصاديًا وسياسيًا، والتطبيع مع العدو الصهيوني، وتهريب الثروات للخارج، والجهل والأمية، والتخلف العلمي والتقني، وتزوير الإرادة الشعبية، وانتشار الربا والزنا... إلخ . هذا إلى جوار انشغال معظم أفراد الأمة بكُرَةِ القدم، وما يسمونه الفن، وعدم الاهتمام بأهل العلم والدعوة والتربية، وهذا الكلام يعني أن مصطلح (فقه الواقع) ليس من اختراع المعاصرين فلا داعي للتوجس منه . 2- العناية بالشكل أكثر من المضمون: كالاعتناء باللباس أكثر من اللازم، والزعم بأن ارتداء الثياب العصرية حرام، ونقول: إن الذي يُحَرَّم من الثياب هو ما كان بِنِيَّةِ التشبه بالكفار، فتكون هيئاتها لها خلفيات دينية أو عرقية أو مذهبية، أما الأزياء العادية التي يشترك فيها جميع الناس فتبقى مباحة للجميع، فقد ثبت -كما ذكر ابن القيم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتدي ما تيسر له من الثياب، فالإسلام لم يلزم
في كتابه الجليل (الذريعة في مكارم الشريعة) يشير الإمام الراغب الأصفهاني إلى ما نسميه اليوم فقه الأولويات بقوله: لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؟ ولهذا قيل لا يستطيع الوصول من ضَيَّع الأصول.. فمن شَغَلَهُ الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار الله تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) سورة النَّحْل الآية (90).
فما هو هذا المصطلح، وما حاجة المسلمين إليه وكيف يتم تطبيقه؟ سنحاول الإجابة عن كل تلك الأسئلة فيما يلى : تعريف الأَوْلَى وَرَدَتْ لفظة (أَوْلَى) بصيغة الإفراد إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم، أما معناها لغة: فاسم تفضيل، ينحصر استعماله اللغوي في معنيين : الأول: بمعنى أَحَقّ وأَجْدَر، والثاني: بمعنى أَقْرَب.
غير أن هذا المعنى الثاني يرجع في أصله إلى المعنى الأول، فقد جاء في معجم (لسان العرب): يقال: فلانٌ أولى بهذا الأمر من فلان، أي أحق به، وفلان أولى بكذا، أي أحرى به وأجدر، وفي الحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر" (البخاري، انظر الفتح 12/11) أي أدنى وأقرب في النسب من المورث، ولمادة "أولى" استعمالات أُخَر، لكنها لا تخرج في مجموعها عن المعنى الأصلي الذي هو الأحقية، ومنها أَوْلاه على اليتيم: أَوْصَاه عليه، وأولاه معروفا: أسداه إليه، وأَوْلَى فُلانًا الأمر: جعله واليًا عليه، وأَوْلَى لك: كلمة تهديد ووعيد، أي: قاربـك الشر فاحذر، ومنه قوله تعــالى:(ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (ســورة القيامة الآية 35) وأولويّة : مصدر صناعي، جمعه أولويات، يقال: له الأولوية في كذا، أو الأحقية، والأولوية نسبة إلى الأولى.
وأما معنى الأولويات اصطلاحًا فهو:
احترام مراتب الأعمال الشرعية، بتقديم الأهم منها على المهم، ووضع كل عمل في موضعه وإطاره الشرعي، "إذ لكل عمل مأمور به، أو منهي عنه وزن معين في نظر الشارع بالنسبة لغيره من الأعمال، ولا يجوز لنا أن نتجاوز به حدّه الذي حده له الشارع، فنهبط به عن مكانته، أو نرتفع به فوق مقداره
أما تعريف فقه الأولويات فهو "العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها"
وهذا يعني أن تقديم حكم على آخر يتطلب :
أ- الفقه بأحكام الشرع وبمراتب هذه الأعمال، وبالقطعي منها من الظني، وبالأصل منها من الجزء، وبالكبير منها من الصغير، وبعبارة موجزة: العلم بالخريطة الشرعية للأحكام.
ب- العلم بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم على آخر في حالة التزاحم، أو في غير حالة التزاحم .
ج- العلم بالواقع والظروف التي يتحرك فيها المسلم .
وعلى هذا فما أصدق ما قاله ابن القيم حين دعا المفتي إلى نوعين من الفهم: "أحدهما فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني هو: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر".
مظاهر غياب فقه الأولويات :
1- الانشغال بالفروع عن الأصول:
مثل الانشغال بحكم تحريك الإصبع في التشهد، والبسملة في الصلاة، وطريقة الهويّ إلى السجود هل نقدم اليدين أم الركبتين... إلخ. وعدم الانشغال بالقضايا الملحة، كقضايا تصحيح تصور المسلم عن الله عز وجل، وقضايا إصلاح الفساد ومقاومة الاستبداد، وتبعية الأمة لغيرها اقتصاديًا وسياسيًا، والتطبيع مع العدو الصهيوني، وتهريب الثروات للخارج، والجهل والأمية، والتخلف العلمي والتقني، وتزوير الإرادة الشعبية، وانتشار الربا والزنا... إلخ .
هذا إلى جوار انشغال معظم أفراد الأمة بكُرَةِ القدم، وما يسمونه الفن، وعدم الاهتمام بأهل العلم والدعوة والتربية، وهذا الكلام يعني أن مصطلح (فقه الواقع) ليس من اختراع المعاصرين فلا داعي للتوجس منه .
2- العناية بالشكل أكثر من المضمون:
كالاعتناء باللباس أكثر من اللازم، والزعم بأن ارتداء الثياب العصرية حرام، ونقول: إن الذي يُحَرَّم من الثياب هو ما كان بِنِيَّةِ التشبه بالكفار، فتكون هيئاتها لها خلفيات دينية أو عرقية أو مذهبية، أما الأزياء العادية التي يشترك فيها جميع الناس فتبقى مباحة للجميع، فقد ثبت -كما ذكر ابن القيم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتدي ما تيسر له من الثياب، فالإسلام لم يلزم المسلم بزي معين، وإنما اشترط شروطا معينة متى توافرت جاز ارتداء ما يراه مناسبًا لظروفه، وإن لم يشبه زِيّ السلف .
ومن مظاهر العناية بالشكليات أيضًا: صرف الاهتمام والجدل والنقاش إلى الأمور الخلافية التي لم يحسمها العلماء من قبل، وترك التعاون على المتفق عليه، فبعض الشباب يتعصب لكيفيات معينة في الصلاة، ولكنه لا يهتم بالخشوع فيها، ولا المقصد منها: ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر?.. وبعضهم يحفظ المسائل الخلافية ويجعلها مقياسا للسُنَّة والبِدْعَة، والولاء والبراء ولا يكاد يعرف شيئا عن غيرها .
3- الانشغال بالعبادات الفردية أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية:
كعدم الاهتمام بالزكاة، والانشغال بالذِّكْر، وعدم الانشغال ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، ورعاية اليتامى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورعاية حقوق الإنسان والدعوة إلى العدل والشورى، والإصلاح بين الناس.
4- الزعم بأن جميع الأوامر الشرعية لها مرتبة واحدة :
وهذا خطأ محض فإن الأعمال تتفاضل ولذا كان الصحابة حريصين كل الحرص على معرفة (الأولى من الأعمال)، ولذا كثرت أسئلتهم عن أفضل الأعمال، وعن أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وجاءت الإجابات الشافية على نحو: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى" و"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" و"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"... إلخ .
التنصيص الأولوي :
كثيرًا ما يتم التنصيص في القرآن الكريم وفي السنة النبوية على أولوية أفعال معينة، وتقديمها على غيرها، وباستقرائنا لهذه الأولويات المنصوص عليها نلاحظ أن بعضها مُدْرَك العلة، وبعضها الآخر غير مُدْرَك، فمما لا تدرك فيه العلة تفضيل مسجده -صلى الله عليه وسلم- على سائر المساجد، وتفضيل الصيام -غير الفرض- في محرم على غيره، وتفضيل بعض صيغ الذِّكْر على غيرها، فهذه التفضيلات وغيرها لا يظهر للعقل البشري وجه الحكمة فيها فالحق سبحانه يفضل أحيانًا عبادات معينة في أزمنة وأمكنة معينة .
ومما يمكن تعليله : تفضيل العلم على العبادة، وتفضيل الجهاد على النوافل، وتفضيل صلاة الليل على غيرها، وتفضيل الصدقة على الأقارب على غيرهم... إلخ، وأغلب الأولويات التي تُدْرَك عللها تعود إلى أحكام المعاملات، أما الأولويات التي لا تُدْرَك علل تقديمها على غيرها؛ فتعود إلى أعمال العبادات غالبًا .
أولا : نماذج للأولويات في القرآن الكريم :
1 -الإخفاء في التطوعات أولى من الإظهار: قال تعالى:(إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) سورة البقرة الآية (271)، قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات: الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء فيها، وليس كذلك الواجب".
وهذا هو الأصل، لا أن يكون الإظهار مصلحة راجحة مثل اقتداء الناس بالمتصدق شريطة أمن الرياء .
2- (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) سورة البقرة الآية (263)، القول المعروف هو الدعاء للفقير، والرد الجميل على السائل، وتلقيه بالترحيب، وطلاقة الوجه، وقد قـال - صلى الله عليه وسلم - : "الكلمة الطيبة صدقة" ( رواه مسلم في كتاب الزكاة 699/2).
3- إبراء المدين أولى من إنظاره: قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية (280)، العُسرة: ضيق الحال، والنظرة: التأخير والتأجيل، والمعنى: إذا أقرضتم شخصًا ثم عجز عن السداد لشدة نزلت به، فأنظِروه إلى وقت الرخاء واليسر، لكن إبراءه وإسقاط الدَّيْن عنه أفضل وأكثر ثوابًا لكم. وقد جاء في فضل هذا الإبراء حديث نصه: "إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه المَلَك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: أنظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا، وأجازيهم، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة" ( البخاري - كتاب الأنبياء 6/494)، وقد جاء في الحديث أيضًا: "... ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة" ( رواه مسلم/42074) .
4- العفو والصفح أولى من الانتصار. قال تعالى(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين) سورة الشورى الآيتان (39-40)
إن الانتصار ورد العدوان، لا لوم فيه ولا عدوان ولا مؤاخذة، وإنما المؤاخذة في الابتداء بإيذاء الناس لكن العفو والمغفرة أفضل وأليق بالمؤمن؛ لأنه من الأعمال الحميدة والمشكورة، وهذا العفو المندوب إليه، إنما يكون في حالة الخطأ، أو التعمد الذي يرافقه التراجع وطلب المغفرة، أما إن كان المعتدي متماديًا في ظلمه وبغيه، فإن الانتصار في هذه الحالة أولى، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون) وهذا هو اللائق بنا في قضية الرسوم المسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن القوم متعجرفون سائرون في غيِّهم .
ثانيًا: نماذج للأولويات في السنة :
1- الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية: فقد جاء عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" (سنن أبي داود 4/85)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (سنن أبي داود 18/1)
فالعلم في الإسلام عبادة في حد ذاته، وهو مصدر الخير كله، ومفتاح النجاح في كل عمل، بدونه تختل الأعمال وبه تصلح، لذا كانت له المكانة الأولى، وكان مقدمًا على العبادة، وقد قال البخاري في إحدى تراجم كتاب العلم من صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ) سورة محمد الآية (19)، فبدأ بالعلم العناية بأعمال القلوب أولى من العناية بأعمال الجوارح،(انظر فتح الباري 1/159).
2-عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم ولكن يَنْظُر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم - كتاب البر والصلة 1987/4) .
يقول الإمام الغزالي: "فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو الساعي إلى الله... وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد... وهو المطيع بالحقيقة له تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساوئه" (انظر الإحياء: 3/2)، ولعلاج أمراض القلب لابد من العلم الشرعي أولا، ثم العمل بهذا العلم ثانيًا .
3- الصدقـة حال الصحة أولى من الوصيـة: عن أبي هريـرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (البخاري - كتاب الزكاة 3/285)؛ إن الإحسان في وقت الصحة والعافية، أفضل وأكثر أجرًا من بذل المال حال المرض واقتراب الأجل لأن ذلك دليل على الإخلاص وعلى ابتغاء ما عند الله .
المسلم بزي معين، وإنما اشترط شروطا معينة متى توافرت جاز ارتداء ما يراه مناسبًا لظروفه، وإن لم يشبه زِيّ السلف . ومن مظاهر العناية بالشكليات أيضًا: صرف الاهتمام والجدل والنقاش إلى الأمور الخلافية التي لم يحسمها العلماء من قبل، وترك التعاون على المتفق عليه، فبعض الشباب يتعصب لكيفيات معينة في الصلاة، ولكنه لا يهتم بالخشوع فيها، ولا المقصد منها: ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر?.. وبعضهم يحفظ المسائل الخلافية ويجعلها مقياسا للسُنَّة والبِدْعَة، والولاء والبراء ولا يكاد يعرف شيئا عن غيرها . 3- الانشغال بالعبادات الفردية أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية: كعدم الاهتمام بالزكاة، والانشغال بالذِّكْر، وعدم الانشغال ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، ورعاية اليتامى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورعاية حقوق الإنسان والدعوة إلى العدل والشورى، والإصلاح بين الناس. 4- الزعم بأن جميع الأوامر الشرعية لها مرتبة واحدة : وهذا خطأ محض فإن الأعمال تتفاضل ولذا كان الصحابة حريصين كل الحرص على معرفة (الأولى من الأعمال)، ولذا كثرت أسئلتهم عن أفضل الأعمال، وعن أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وجاءت الإجابات الشافية على نحو: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى" و"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" و"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"... إلخ . التنصيص الأولوي : كثيرًا ما يتم التنصيص في القرآن الكريم وفي السنة النبوية على أولوية أفعال معينة، وتقديمها على غيرها، وباستقرائنا لهذه الأولويات المنصوص عليها نلاحظ أن بعضها مُدْرَك العلة، وبعضها الآخر غير مُدْرَك، فمما لا تدرك فيه العلة تفضيل مسجده -صلى الله عليه وسلم- على سائر المساجد، وتفضيل الصيام -غير الفرض- في محرم على غيره، وتفضيل بعض صيغ الذِّكْر على غيرها، فهذه التفضيلات وغيرها لا يظهر للعقل البشري وجه الحكمة فيها فالحق سبحانه يفضل أحيانًا عبادات معينة في أزمنة وأمكنة معينة . ومما يمكن تعليله : تفضيل العلم على العبادة، وتفضيل الجهاد على النوافل، وتفضيل صلاة الليل على غيرها، وتفضيل الصدقة على الأقارب على غيرهم... إلخ، وأغلب الأولويات التي تُدْرَك عللها تعود إلى أحكام المعاملات، أما الأولويات التي لا تُدْرَك علل تقديمها على غيرها؛ فتعود إلى أعمال العبادات غالبًا . أولا : نماذج للأولويات في القرآن الكريم : 1 -الإخفاء في التطوعات أولى من الإظهار: قال تعالى:(إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) سورة البقرة الآية (271)، قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات: الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء فيها، وليس كذلك الواجب". وهذا هو الأصل، لا أن يكون الإظهار مصلحة راجحة مثل اقتداء الناس بالمتصدق شريطة أمن الرياء . 2- (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) سورة البقرة الآية (263)، القول المعروف هو الدعاء للفقير، والرد الجميل على السائل، وتلقيه بالترحيب، وطلاقة الوجه، وقد قـال - صلى الله عليه وسلم - : "الكلمة الطيبة صدقة" ( رواه مسلم في كتاب الزكاة 699/2). 3- إبراء المدين أولى من إنظاره: قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية (280)، العُسرة: ضيق الحال، والنظرة: التأخير والتأجيل، والمعنى: إذا أقرضتم شخصًا ثم عجز عن السداد لشدة نزلت به، فأنظِروه إلى وقت الرخاء واليسر، لكن إبراءه وإسقاط الدَّيْن عنه أفضل وأكثر ثوابًا لكم. وقد جاء في فضل هذا الإبراء حديث نصه: "إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه المَلَك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: أنظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا، وأجازيهم، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة" ( البخاري - كتاب الأنبياء 6/494)، وقد جاء في الحديث أيضًا: "... ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة" ( رواه مسلم/42074) . 4- العفو والصفح أولى من الانتصار. قال تعالى(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين) سورة الشورى الآيتان (39-40) إن الانتصار ورد العدوان، لا لوم فيه ولا عدوان ولا مؤاخذة، وإنما المؤاخذة في الابتداء بإيذاء الناس لكن العفو والمغفرة أفضل وأليق بالمؤمن؛ لأنه من الأعمال الحميدة والمشكورة، وهذا العفو المندوب إليه، إنما يكون في حالة الخطأ، أو التعمد الذي يرافقه التراجع وطلب المغفرة، أما إن كان المعتدي متماديًا في ظلمه وبغيه، فإن الانتصار في هذه الحالة أولى، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون) وهذا هو اللائق بنا في قضية الرسوم المسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن القوم متعجرفون سائرون في غيِّهم . ثانيًا: نماذج للأولويات في السنة : 1- الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية: فقد جاء عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" (سنن أبي داود 4/85)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (سنن أبي داود 18/1) فالعلم في الإسلام عبادة في حد ذاته، وهو مصدر الخير كله، ومفتاح النجاح في كل عمل، بدونه تختل الأعمال وبه تصلح، لذا كانت له المكانة الأولى، وكان مقدمًا على العبادة، وقد قال البخاري في إحدى تراجم كتاب العلم من صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ) سورة محمد الآية (19)، فبدأ بالعلم العناية بأعمال القلوب أولى من العناية بأعمال الجوارح،(انظر فتح الباري 1/159). 2-عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم ولكن يَنْظُر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم - كتاب البر والصلة 1987/4) . يقول الإمام الغزالي: "فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو الساعي إلى الله... وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد... وهو المطيع بالحقيقة له تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساوئه" (انظر الإحياء: 3/2)، ولعلاج أمراض القلب لابد من العلم الشرعي أولا، ثم العمل بهذا العلم ثانيًا . 3- الصدقـة حال الصحة أولى من الوصيـة: عن أبي هريـرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (البخاري - كتاب الزكاة 3/285)؛ إن الإحسان في وقت الصحة والعافية، أفضل وأكثر أجرًا من بذل المال حال المرض واقتراب الأجل لأن ذلك دليل على الإخلاص وعلى ابتغاء ما عند الله . |
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
1:58 ص
مقالات الدكتور منير جمعة
.