حق العودة.. بكم يباع!
د. رفيق حبيب المعركة مع العدو الصهيوني هي معركة وجود وليست معركة حدود، لأن الخلاف ليس خلافا على الحدود بين دولتين، فالصراع في جوهره نابع من محاولة تدمير دولة وإقامة دولة أخرى مكانها، وتهجير شعب وإحلال شعب آخر مكانه، وتغيير هوية وتاريخ أرض فلسطين، وزرع تاريخ آخر مكانه. فهدف المشروع الصهيوني، هو تغيير واقع الدولة والشعب والأرض، حتى يتم بناء دولة قومية عنصرية، تعادي الشعب الأصلي، وتهجره من أراضيه، ثم تمحي ذاكرته وتاريخه، وتمحي حقائق التاريخ، وتمحي أيضا هوية الأرض نفسها، ثم يكتب العدو تاريخا آخر على رمال هذه الأرض، وكأنه يملك القدرة على تغيير التاريخ وافتراض التاريخ الذي يريد.
تلك هي المسألة، فأرض فلسطين لم تتعرض لاحتلال عسكري استعماري مثل الذي تعرفه كتب التاريخ، ولكنها تتعرض لاحتلال استيطاني قائم على فكرة الإبادة الحضارية الشاملة، فهو يريد إبادة الشعب وإبادة الأرض. فالشعب يتم تهجيره، والأرض يتم تغيير ملامحها وآثارها
وعلاماتها، حتى تصبح أرضا أخرى. لذا فالشعب الفلسطيني يتعرض لعملية إبادة، تقوم أساسا على تهجيره من أرضه، فإذا أصبحت الأرض خالية من الشعب الفلسطيني، أو تضاؤل عددهم في أرضهم التاريخية، أصبح من الممكن بعد تفريغ الأرض من البشر، أن تبدأ عملية تغيير ملامح الأرض، ثم زراعة تاريخ مصطنع آخر، حتى ينتهي أي رابط بين الأرض وبين السكان الأصليين، ويتم محو الحق الفلسطيني من الأرض نفسها، ومن حبات الرمل، فيغيب الحق عن الوجود الواقعي، وبالتالي يغيب عن الوجود التاريخي.
لذا فمعركة حق العودة هي المعركة الأساسية، وهي جوهر الصراع، والهدف النهائي منه. فالعدو يريد إخلاء الأرض من سكانها، فيصبح الرد الرئيس عليه، هو إعادة الشعب إلى أرضه. وحق العودة هو حق في كل الشرائع والقوانين الدولية، وهو حق لكل شعوب الأرض، ولا يمكن إلا أن يكون حقا للشعب الفلسطيني أيضا. لذا تصبح معركة العودة هي المعركة الرئيسة في المواجهة مع العدو الصهيوني، وعليه يصبح التنازل عن حق العودة، هو التسليم الكامل والنهائي للعدو، وهو النصر الأول والأخير للعدو الصهيوني. فالقضية تنتهي بمجرد التنازل عن حق العودة. لأن التنازل عن حق العودة هو قبول لما حدث لفلسطين من تفريغ سكاني، وبالتالي هو قبول لتهويد فلسطين وتاريخها وآثارها، وقبول لإعادة تصنيع فلسطين جديدة يهودية وعنصرية وغربية ومستعمرة، وكل هذا يؤدي إلى إبادة تاريخ الأرض، وإبادة الشعب الفلسطيني، وتفريقه في الشتات، ثم دمجه في المجتمعات الأخرى حتى يزول تدريجيا.
من يملك التنازل
عندما تناقش قضية حق العودة، يظن أن هناك من يمكن له أن يقبل التنازل عن حق العودة، أو يقبل ثمنا لبيع حق العودة، وهذا غير حقيقي. فحق العودة يعني عودة أرض فلسطين إلى الأمة الإسلامية، فهي أرض من أراضيها ووطن من أوطانها، وعدم النظر للقضية بهذه الصورة يمهد في الواقع للحديث حول التنازل عن أرض فلسطين، ومن يقول أن هذا يحول القضية إلى قضية دينية يخطئ، لأنها قضية أمة، وكل القضايا الكبرى ترتبط بقيم الأمم والشعوب، ولهذا فقضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية، وهي قضية تمس قيم الأمة وحضارتها وتاريخها، وبالتالي فهي قضية لها العديد من الأبعاد، فالعدوان الحادث على أرض فلسطين، هو عدوان على الأمة وحضارتها وعقيدتها. والعدو الغربي الذي زرع الكيان الصهيوني، أراد أن يجعله مانعا أمام استعادة الأمة الإسلامية لهويتها ووحدتها، ومنع قيام كيان سياسي إسلامي من جديد.
لذا فمن يملك الحق الفلسطيني، هو كل الأمة الإسلامية، والشعب الفلسطيني هو المالك المستفيد من الحق والممارس له على الأرض، ولكن كل جمهور الأمة الإسلامية يعتبر الحق الفلسطيني جزءا من حقوقه. ففلسطين قضية وطنية وعربية وإسلامية في وقت واحد.
هل يجوز للفلسطيني بيع حق العودة؟(فتوى)
فإذا كان الشعب الفلسطيني كله لا يملك التنازل عن أرض فلسطين، لأن كل جمهور الأمة الإسلامية يمكن أن يطالب بهذا الحق، فمن يملك التنازل عن الحق الفلسطيني باسم الشعب الفلسطيني؟ لأن الحقوق لا تخضع أساسا للاستفتاء، ولا يمكن لجمهور الشعب الفلسطيني في لحظة معينة أن يقرر التنازل عن حقوقه. فالثوابت لم تطرح أبدا في حياة الشعوب والأمم للاستفتاء، ولا تخضع للحظة ضعف أو هزيمة.ة.
ولهذا لا يملك أحدا، يدعي أنه يمثل الشعب الفلسطيني، أن يتنازل عن حق العودة، لأن التنازل عن الثوابت والحقوق لا يملكه أحد، حتى إذا كان ممثلا عن الشعب.
البيع لأقل سعر جبريا
تطرح بين الحين والآخر، فكرة أن يتم عرض التعويضات على اللاجئين بديلا عن عودتهم لمكان سكنهم الأصلي في فلسطين، أو بديلا عن عودتهم لفلسطين كلها، بما في ذلك العودة لأراضي الدولة الفلسطينية المزعومة. وهذا يعني أن يتنازل من يظن أنه يمثل الشعب الفلسطيني عن حق عودة اللاجئين كلهم، وهو بهذا يوقع على تنازل جماعي إجباري لكل اللاجئين، وهو أمر غير مشروع أساسا طبقا لكل الشرائع والقوانين. فإذا لم يكن التنازل جماعيا، فعني هذا أن البعض سوف يقبل والبعض سوف يرفض، وهذا لا يحقق غرض الاحتلال الصهيوني، لأنه لن يقبل عودة أي جزء من اللاجئين.
والتنازل الإجباري لكل اللاجئين غير شرعي وغير قانوني، وأيضا تنازل فرد واحد عن حقه في العودة، غير شرعي وغير قانوني، لأنه لا يستطيع التنازل عن حقه وعن حق الأجيال التي تأتي بعده، فحقه كفرد ينحصر قانونا فيه كفرد، ولا يمتد للأجيال اللاحقة له. ومعنى التنازل المطلوب صهيونيا، هو التنازل عن حق كل اللاجئين الحاليين، وكل أجيالهم القادمة، ولم يعرف تاريخ البشرية تنازلا يشمل الأجيال التي لم تولد بعد. لذا فالفرد الواحد ليس له حق التنازل إلا عن نفسه، رغم أن تنازله هذا هو خروج على حقوق الأمة الإسلامية، وحقوق الشعب الفلسطيني والعربي. ولكن من يخرج على حقوق أمته، ليس من حقه أن يخرج الأجيال اللاحقة له على أمتهم. لذا فلا يملك فرد أن يتنازل نيابة عن كل اللاجئين، ولا يملك فرد أن يتنازل نيابة عن الأجيال اللاحقة.
فالتنازل المطلوب لا يملك أحد أن يقدمه للعدو أساسا. لا من يدعي أنه يمثل الشعب الفلسطيني، ولا اللاجئ نفسه، لأنه حق للأجيال القادمة، والتي لم تأتي بعد، ولا يمكن لأحد أن يعتبر نفسه مخولا في التنازل عن حق الأجيال القادمة.
وأكثر من هذا، فالأرض لا تباع، والتاريخ لا يباع، والهوية لا تباع، والحضارة لا تباع، والمستقبل لا يباع، وحقوق وثوابت الأمة لا تباع أيضا. فهي معاني وحقائق لا يمكن أن تعرض للبيع، لأنها ببساطة لا تقدر بثمن، ولأنها ليست سلعا. فبكم يمكن بيع حق الأمة في النهوض وتحرير كل أوطانها وتحقيق وحدتها السياسية! فبيع حقوق الأمة، مثله مثل اغتيال الأمة بكاملها، فبكم يمكن تقدير ثمن أمة. ليس هذا فحسب، فبيع حقوق الأمة، هو جناية في حق البشرية كلها، لأنه إخراج للأمة من التاريخ البشري، وحرمان الإنسانية من دورها الحضاري، مما يؤدي إلى حدوث خلل في التوازن التاريخي بين الأمم والشعوب، وبين أدوار الحضارات، والذي يحقق حالة التدافع، التي تحمي البشرية من الانهيار.
الثوابت ليست للبيع
إن ما يبقى حضارة ما أو أمة ما، هي قدرتها على النضال والجهاد من أجل حماية ثوابتها وحضارتها ومرجعيتها. فحياة الأمة لا ترتبط بمجرد وجود نبض الحياة في شرايين الأفراد، ولكن حياتها ترتبط بقدرتها على الفعل والنهوض والتأثير، وقدرتها على القيام بدورها التاريخي والحضاري في تاريخ البشرية. والأمة الإسلامية ترتبط نهضتها بتحررها ووحدتها، لهذا فبيع أرض فلسطين، وقيام كيان عنصري معادي عليها، يمنع تحرير كل أوطان الأمة، كما يمنع قيام وحدتها من جديد. لذا فبيع حق العودة، هو بيع لحق الأمة الإسلامية في الوجود، لأنه بيع لحق الشعب الفلسطيني في الوجود، وعندما يباع شعب من شعوب الأمة، وتباع أرضه، تصبح الأمة كلها معروضة في مزاد علني، ومصيرها كله معروض للبيع.
من يظن أن بيع حق العودة هو تنازل عن حق فلسطيني فقط أو حق فردي للاجئين، قد يحتاج إلى إعادة قراءة تاريخ الشعوب والأمم كلها. فمن يتجرأ ببيع حقوقه وثوابته، كمن يبيع حياته. وبيع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، هو بيع للأمة كلها، ولكل مستقبلها.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
10:26 ص
مقالات متنوعة
.