ثابت بن قيس
إعداد: أحمد صلاح
عندما هاجر الرسول إلى المدينة، لم يتخلَّ عن سياسته الدعوية من حيث انتقاء المواهب ورعايتها، سواءٌ كانت تلك المواهب قياديةً أو عسكريةً أو علميةً أو فكريةً أو إعلاميةً.
ولقد كان من بين تلك المواهب الإعلامية الفذة.. ثابت بن قيس
عُرف ثابت في المدينة بفصاحته وقدراته في البلاغة والخطابة، حتى إنه عُرف بعد إسلامه بـ"خطيب الأنصار".
كانت الكلمات تجري على لسان ثابت بن قيس دون عناء، وكان يصل إلى هدفه بأسلوب بليغ، قلَّما ينافسه فيه أحد.
وعندما جاء وفد بني تميم قال سيدهم لرسول الله في مداعبة لطيفة: جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "قد أذنت لخطيبكم, فليقل"، وقام خطيبهم عطارد بن حاجب، ووقف يزهو بمفاخر قومه.
ولما انتهى، نظر الرسول إلى الخطيب الموهوب ثابت بن قيس؛ ليبدأ دوره في المنافسة الخطابية مع خطيب وفد بني تميم، فقام ثابت في ثقة وهو يقول: "الحمد لله, الذي في السماوات والأرض خلقه, قضى فيهنَّ أمره, ووسع كرسيُّه علمه, ولم يكُ شيءٌ قط إلا من فضله.. ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة، واصطفى من خير خلقه رسولاً.. أكرمهم نسبًا، وأصدقهم حديثًا، وأفضلهم حسبًا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابًا, وخيرهم فعالاً، ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابةً.. فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله..".
وإلى جانب قدرات ثابت الكلامية الفريدة، فإن رقَّته البالغة كانت تغلبه في أحيان كثيرة، خاصةً عندما يتعرَّض الأمر لعلاقته بالله أو الرسول.
فلقد انزعج ثابت يومًا انزعاجًا شديدًا، حتى إنه هرع إلى بيته وأغلق عليه بابه فلم يخرج أيامًا من حزنه وأسفه!، وكان السبب هو نزول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)﴾ (النساء).
ولقد كان وضع ثابت كخطيب يظهر أمام جموع الناس، جعل من صفاته أن يلبس أفضل الملابس وأزهاها، وعندما نزلت الآية انزعج بشدة من أن يكون من بين المختالين الفخورين الذين عوقبوا بعدم حب الله لهم.
وعندما علم الرسول بغياب ثابت، طلبه ليسأله، ووقف ثابت بين يديه يغلبه البكاء وهو يقول:
يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيًا: "إنك لست منهم.. بل تعيش بخير.. وتموت بخير.. وتدخل الجنة".
إلا أنه ومع ذلك عاود ثابت بن قيس نفس الإحساس ونفس القلق ونفس الخوف، حين نزلت آية أخرى من سورة الحجرات التي قال الله فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُون﴾ (الحجرات: 2).
وللمرة الثانية يعاود ثابت البكاء ويلجأ إلى العزلة.. كان يخشى هذه المرة من صوته الجهوري أن يكون مؤذيًا لرسول الله، وأن يكون من الذين قد حبط عملهم دون أن يشعر، إلا أن الرسول طمأنه للمرة الثانية، وبشَّره بالجنة للمرة الثانية، وقال له في لطف: "إنك لست منهم.. بل تعيش حميدًا.. وتُقتل شهيدًا.. ويُدخلك الله الجنة".
إلا أن هذه الرقة المفرطة، كانت تستحيل إلى عنف ليس له مثيل على أعداء الله في ميدان المعركة.
لقد ظهر ثابت بن قيس وهو يلبس كفنه وأخذ يصيح بكل قوته: "اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء"، وكان يعني جيش مسيلمة.. ثم تابع: "وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء" وكان يعني تراخي بعض المسلمين في القتال.
وما إن انتهى من كلامه، حتى انضمَّ له سالم مولى أبى حذيفة، حامل راية المهاجرين، وإذا بهما يبثَّان هما رسالةً إعلاميةً قويةً، زادت من حماس الجنود أضعافاً مضاعفةً، وكان مما رآه المسلمون منهما مذهلاً بحق.
فلقد حفر الاثنان لنفسيهما حفرةً في الرمال، وقفزا فيها، ثم أهالا الرمال على نصفيهما الأسفل، بينما ظهر نصفهما الأعلى، الصدر والجبهة وذراع تمسك بسيف بتار، يندفع يمينًا ويسارًا يقتل المرتدين الكاذبين.
لقد أراد ثابت وأخوه سالم أن يرسلا إلى الجنود رسالةً واضحةً كالشمس، فهمها الجميع دون عناء.. سنموت دفاعًا عن الإسلام ولن نعود إلى ديارنا.. فماذا ستفعلون أنتم؟!
ولقد وصلت الرسالة بالفعل، ودبَّت الحماسة في المقاتلين، وتاقت نفوسهم إلى الشهادة، فكتب لهم النصر، وكتب لثابت بن قيس وأخوه سالم الشهادة، وهما واقفان، في مشهد نادر لبطولة نادرة في التاريخ.
2- الإسلام لا يحرِّم الثراء، ولكنه يحرِّم التفاخر والتعالي به؛ لأنه يمزق المجتمع المسلم بالحسد والكراهية (ثابت بن قيس يخشى عدم حب الله له؛ لأنه يلبس نظيف الثياب، والرسول يطمئنه).
من القيم التي يدافع عنها الإسلام بقوة، تماسك المجتمع المسلم عن طريق الحب والتعاون والرحمة والتكافل، وهو ما جعله يلوم الذين يتفاخرون من الناس بمظاهر ثرائهم، كالبيت الفخم أو السيارة الفارهة أو الملابس الغالية، وهذا لا يعني أن الإسلام يحرم هذه المظاهر، ولكنه يحرِّم فقط استخدامها وسيلةً للتعالي على الآخرين، وهو أمر مرجعه النية، ويظهر واضحًا بالسلوك والتصرفات، والإسلام يحرِّم ذلك لأنه يؤدي إلى الحسد والتباغض، والكره من الفقراء للأغنياء؛ مما يؤدي إلى شقِّ الصف المسلم وانتشار الجريمة، ومن ثم ضعف المجتمع وتفككه.
3- رقة المشاعر لا تعني عدم الجدية في التعامل والصلابة في الشدائد (كان ثابت بن قيس شاعرًا رقيقًا ولكنه كان عنيفًا في الحرب على الأعداء).
الإسلام دين متوازن ومتكامل، لا يدعو إلى أن يكون المسلم رقيقًا ليل نهار، فلا يغضب للحق، ولا يكون صلبًا قويًّا في الشدائد وعند لقاء الأعداء، كما أنه لا يطلب من المسلم أن يكون عنيفًا على طول الخط، فلا يعرف اللطف والمزاح والرحمة والحزن والبكاء، إنما الإسلام دين متوازن، يمد المسلم بكل المشاعر، ولكنه يطلب منه أن يوظفها توظيفًا صحيحًا، فيخرجها في وقتها، وأن يكون قادرًا على التحكم في مشاعره بالطريقة المناسبة، حسب شدة الموقف وأهميته وخطورته، فالغضب قد تختلف حدَّته من موقف لآخر، ودرجة الرقة مع الأبناء تختلف عن الأصدقاء عنها عن الغرباء.. إلخ.
إن الإسلام دين مشاعر، ولكنها مشاعر مضبوطة بالحكمة والعقل
عندما هاجر الرسول إلى المدينة، لم يتخلَّ عن سياسته الدعوية من حيث انتقاء المواهب ورعايتها، سواءٌ كانت تلك المواهب قياديةً أو عسكريةً أو علميةً أو فكريةً أو إعلاميةً.
ولقد كان من بين تلك المواهب الإعلامية الفذة.. ثابت بن قيس
عُرف ثابت في المدينة بفصاحته وقدراته في البلاغة والخطابة، حتى إنه عُرف بعد إسلامه بـ"خطيب الأنصار".
كانت الكلمات تجري على لسان ثابت بن قيس دون عناء، وكان يصل إلى هدفه بأسلوب بليغ، قلَّما ينافسه فيه أحد.
وعندما جاء وفد بني تميم قال سيدهم لرسول الله في مداعبة لطيفة: جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "قد أذنت لخطيبكم, فليقل"، وقام خطيبهم عطارد بن حاجب، ووقف يزهو بمفاخر قومه.
ولما انتهى، نظر الرسول إلى الخطيب الموهوب ثابت بن قيس؛ ليبدأ دوره في المنافسة الخطابية مع خطيب وفد بني تميم، فقام ثابت في ثقة وهو يقول: "الحمد لله, الذي في السماوات والأرض خلقه, قضى فيهنَّ أمره, ووسع كرسيُّه علمه, ولم يكُ شيءٌ قط إلا من فضله.. ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة، واصطفى من خير خلقه رسولاً.. أكرمهم نسبًا، وأصدقهم حديثًا، وأفضلهم حسبًا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابًا, وخيرهم فعالاً، ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابةً.. فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله..".
وإلى جانب قدرات ثابت الكلامية الفريدة، فإن رقَّته البالغة كانت تغلبه في أحيان كثيرة، خاصةً عندما يتعرَّض الأمر لعلاقته بالله أو الرسول.
فلقد انزعج ثابت يومًا انزعاجًا شديدًا، حتى إنه هرع إلى بيته وأغلق عليه بابه فلم يخرج أيامًا من حزنه وأسفه!، وكان السبب هو نزول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)﴾ (النساء).
ولقد كان وضع ثابت كخطيب يظهر أمام جموع الناس، جعل من صفاته أن يلبس أفضل الملابس وأزهاها، وعندما نزلت الآية انزعج بشدة من أن يكون من بين المختالين الفخورين الذين عوقبوا بعدم حب الله لهم.
وعندما علم الرسول بغياب ثابت، طلبه ليسأله، ووقف ثابت بين يديه يغلبه البكاء وهو يقول:
يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيًا: "إنك لست منهم.. بل تعيش بخير.. وتموت بخير.. وتدخل الجنة".
إلا أنه ومع ذلك عاود ثابت بن قيس نفس الإحساس ونفس القلق ونفس الخوف، حين نزلت آية أخرى من سورة الحجرات التي قال الله فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُون﴾ (الحجرات: 2).
وللمرة الثانية يعاود ثابت البكاء ويلجأ إلى العزلة.. كان يخشى هذه المرة من صوته الجهوري أن يكون مؤذيًا لرسول الله، وأن يكون من الذين قد حبط عملهم دون أن يشعر، إلا أن الرسول طمأنه للمرة الثانية، وبشَّره بالجنة للمرة الثانية، وقال له في لطف: "إنك لست منهم.. بل تعيش حميدًا.. وتُقتل شهيدًا.. ويُدخلك الله الجنة".
إلا أن هذه الرقة المفرطة، كانت تستحيل إلى عنف ليس له مثيل على أعداء الله في ميدان المعركة.
لقد ظهر ثابت بن قيس وهو يلبس كفنه وأخذ يصيح بكل قوته: "اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء"، وكان يعني جيش مسيلمة.. ثم تابع: "وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء" وكان يعني تراخي بعض المسلمين في القتال.
وما إن انتهى من كلامه، حتى انضمَّ له سالم مولى أبى حذيفة، حامل راية المهاجرين، وإذا بهما يبثَّان هما رسالةً إعلاميةً قويةً، زادت من حماس الجنود أضعافاً مضاعفةً، وكان مما رآه المسلمون منهما مذهلاً بحق.
فلقد حفر الاثنان لنفسيهما حفرةً في الرمال، وقفزا فيها، ثم أهالا الرمال على نصفيهما الأسفل، بينما ظهر نصفهما الأعلى، الصدر والجبهة وذراع تمسك بسيف بتار، يندفع يمينًا ويسارًا يقتل المرتدين الكاذبين.
لقد أراد ثابت وأخوه سالم أن يرسلا إلى الجنود رسالةً واضحةً كالشمس، فهمها الجميع دون عناء.. سنموت دفاعًا عن الإسلام ولن نعود إلى ديارنا.. فماذا ستفعلون أنتم؟!
ولقد وصلت الرسالة بالفعل، ودبَّت الحماسة في المقاتلين، وتاقت نفوسهم إلى الشهادة، فكتب لهم النصر، وكتب لثابت بن قيس وأخوه سالم الشهادة، وهما واقفان، في مشهد نادر لبطولة نادرة في التاريخ.
درس ومعنى
1- اهتمام الدولة بمواهب أبنائها يزيد من انتمائهم للوطن، ويجعلهم يقدمون مواهبهم من أجل بنائه وتقدمه (الرسول يشجع ثابت بن قيس على موهبته الخطابية ويستغلها في تأسيس الدولة الإسلامية).2- الإسلام لا يحرِّم الثراء، ولكنه يحرِّم التفاخر والتعالي به؛ لأنه يمزق المجتمع المسلم بالحسد والكراهية (ثابت بن قيس يخشى عدم حب الله له؛ لأنه يلبس نظيف الثياب، والرسول يطمئنه).
من القيم التي يدافع عنها الإسلام بقوة، تماسك المجتمع المسلم عن طريق الحب والتعاون والرحمة والتكافل، وهو ما جعله يلوم الذين يتفاخرون من الناس بمظاهر ثرائهم، كالبيت الفخم أو السيارة الفارهة أو الملابس الغالية، وهذا لا يعني أن الإسلام يحرم هذه المظاهر، ولكنه يحرِّم فقط استخدامها وسيلةً للتعالي على الآخرين، وهو أمر مرجعه النية، ويظهر واضحًا بالسلوك والتصرفات، والإسلام يحرِّم ذلك لأنه يؤدي إلى الحسد والتباغض، والكره من الفقراء للأغنياء؛ مما يؤدي إلى شقِّ الصف المسلم وانتشار الجريمة، ومن ثم ضعف المجتمع وتفككه.
3- رقة المشاعر لا تعني عدم الجدية في التعامل والصلابة في الشدائد (كان ثابت بن قيس شاعرًا رقيقًا ولكنه كان عنيفًا في الحرب على الأعداء).
الإسلام دين متوازن ومتكامل، لا يدعو إلى أن يكون المسلم رقيقًا ليل نهار، فلا يغضب للحق، ولا يكون صلبًا قويًّا في الشدائد وعند لقاء الأعداء، كما أنه لا يطلب من المسلم أن يكون عنيفًا على طول الخط، فلا يعرف اللطف والمزاح والرحمة والحزن والبكاء، إنما الإسلام دين متوازن، يمد المسلم بكل المشاعر، ولكنه يطلب منه أن يوظفها توظيفًا صحيحًا، فيخرجها في وقتها، وأن يكون قادرًا على التحكم في مشاعره بالطريقة المناسبة، حسب شدة الموقف وأهميته وخطورته، فالغضب قد تختلف حدَّته من موقف لآخر، ودرجة الرقة مع الأبناء تختلف عن الأصدقاء عنها عن الغرباء.. إلخ.
إن الإسلام دين مشاعر، ولكنها مشاعر مضبوطة بالحكمة والعقل
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
12:15 م
من رموز الاسلام
.