إعلان براءة في موسم الحج
قصة الإسلام/قبسات أون لاين
أبو بكر أمير للحج ونزول براءة
في آخر السنة التاسعة أرسل رسول الله وفدًا من المسلمين للحج، ولم يذهب هو معهم، وإنما أَمّر على الناس أبا بكر الصديق t، وسبب عدم ذهابه إلى الحج في هذا العام أن الحج كان مفتوحًا للمسلمين والمشركين معًا، ولما كان هناك بعض البقاع في الجزيرة ما زالت على الشرك، فإنه من المتوقع أن تذهب منهم أفواجًا للحج، وقال الصحابة y لرسول الله : إن المشركين يحضرون، ويطوفون بالبيت عراة. فقال : "لا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ".
وخرج بالفعل وفد الحج إلى مكة المكرمة، بقيادة أبي بكر الصديق t، وبعد خروج الوفد نزل صدر سورة "براءة" ببعض التشريعات المهمَّة في تعامل المسلمين مع المشركين، وفيها إعلان مصيري بالنسبة لكل شرك في الجزيرة العربية، كما أن الآيات وضحت أن هذا الإعلان يجب أن يكون في الحج، بل حددت يومًا بعينه هو يوم الحج الأكبر، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3].
وهناك اختلاف بين العلماء في تحديد يوم الحج الأكبر والمقصود به، وبعض العلماء يذكر أنه يوم عرفة، بينما يذكر آخرون تفسيرات أخرى كثيرة، ولكن الأرجح أن المقصود هو يوم النحر.
وقد أمر رسول الله علي بن أبي طالب t أن يحمل هذه الآيات، وينطلق بها إلى مكة ليقرأها على أسماع جميع الناس، وكان من عادة العرب أنه إذا أراد زعيم قبيلة أن يقطع عهدًا مع قوم آخرين أن يقوم هو بنفسه أو أحد من أهل بيته بإعلان هذا القطع، ولذلك أوكل رسول الله عليًّا لهذه المهمة، لكونه ابن عمه، وليكون هذا الإعلان نافذًا عند عموم العرب.
ولذلك عندما رأى أبو بكر الصديق t عليًّا يأتي ومعه هذا البيان سأله قائلاً: أمير أم مأمور؟
فقال عليّ: بل مأمور.
وهكذا سارت الرحلة المباركة، حتى وصلت إلى مكة المكرمة، وبدأت مراسم الحج، وكان أبو بكر الصديق t يُعرّف الناس أمور دينهم، ومناسك الحج، بينما كان علي بن أبي طالب t يقرأ صدر سورة التوبة على الناس ليُعلمهم بالتشريعات الجديدة.
ولننظر ماذا كان يقرأ علي بن أبي طالب t في هذا الإعلان الرباني الفريد..
قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 1، 8].
ثم تستمر الآيات على هذا النسق، وهي تحمل التشريعات تلو التشريعات في بيان في غاية الأهمية، ثم بعد قراءة هذا الآيات كان علي بن أبي طالب t ينادي في الناس بأحد أربعة:
لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشركٌ.
وقفة مع إعلان براءة المهيب
لي تعليقات كثيرة على هذه المجموعة من الآيات، وعلى هذا الإعلان المهيب:
أولاً: هذا إعلان مباشر للمشركين أنه بعد انقضاء الأجل المضروب في الآيات، فإن الحرب معلنة عليهم بوضوح وبقوة، وليس أمامهم إلا خيار من اثنين: إما القتال ضد المسلمين، وإما الإسلام.
والسؤال: من هم المشركون المقصودون في الآيات؟ هل هم عموم مشركي العرب والجزيرة العربية،
أم هم مشركو مكة؟
اختلف الفقهاء في ذلك، والحق أني أميل إلى أن المقصود في هذه الآيات هم مشركو الجزيرة العربية.
فالحرب بينهم وبين المسلمين كانت معلنة ومستمرة أكثر من عشرين سنة متصلة، ولاقى المسلمون أشد المعاناة من هؤلاء المشركين، وتكتلاتهم، وأحزابهم، وقد اجتمعوا جميعًا على حرب المسلمين حتى قال الله : {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
فعلّة قتال المشركين كافة أنهم يقاتلون المسلمين كافة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل من لم يقاتله إلا بعلة واضحة، كسلب أو نهب أو اغتصاب لحقوق المسلمين، أو بسبب ظلم أوقعوه بأحد، والمسلمون يريدون رفع هذا الظلم، أو بسبب منعهم للمسلمين من نشر دينهم، أو إيصال هذا الدين للغير.
بدون هذه الأمور يصبح قتال المشركين غير جائز، ومن ثَمَّ فقتال مشركي العالم جميعًا ليس منطقيًّا، وإنما يقاتل المسلمون بعض مشركي العالم الذين قاموا بما ذكرناه من أمور.
وقد ذكر الله في موضع آخر من سورة التوبة أيضًا - تفسيرًا لإعلان الحرب على المشركين، فقال I: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
فهذه أسباب تدعو إلى قتال هؤلاء المشركين، ومن الواضح أنهم إن لم يفعلوا هذه الأمور لم يكن قتالهم جائزًا، وإذا كانت كل هذه استنباطات فإن واقع المسلمين في زمان الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول يصدق هذا الاختيار، فالمسلمون في فتوحاتهم لم يقاتلوا أو يقتلوا كل المشركين الذين قابلوهم في هذه الفتوحات، بل على العكس لم يكونوا يقاتلون إلا من قاتلهم من جيش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المش
هذا واقعٌ رأيناه بأنفسنا في كل الفتوح الإسلامية، وما وجدنا رجلاً واحدًا -فيما أعلم- قُتِل لكونه مشركًا فقط.
وعلى هذا يحمل حديث: "أُمِرْتُ أَنْ أُقاَتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ".. على أنه قتال مشركي العرب، وإذا اختار المشرك في أي بلد من بلاد العالم -باستثناء الجزيرة العربية- أن يبقى على شركه، ويدفع الجزية، فإن ذلك يقبل منه، وذلك على مذهب الإمام مالك والأوزاعي وفقهاء الشام.
وهو ما أراه صحيحًا وموافقًا لما رأيناه في الفتوح، وقد أخذ رسول الله الجزية من المجوس، وليس عُبَّاد النار بأفضل من غيرهم من المشركين؛ ولذلك ينطبق حكمهم -كما يقول ابن القيم- على غيرهم من عموم المشركين في الأرض، أما المشركون في الجزيرة العربية، فكانوا في حالة حرب فعليّة مع المسلمين، ومن ثَمَّ فحربهم مشروعة، وليس في الشرع الإسلامي فقط، ولكنه في أي عرف وقانون، ولا ينكر ذلك إلا جاحد يرى الحق ويتبع غيره.
وعلى الناحية الأخرى، فإني لا أرى أن هذه الآيات تخص أهل مكة فقط لأسباب كثيرة، منها أن معظم أهل مكة، إن لم يكن كلهم، كانوا أسلموا بالفعل في فتح مكة، قبل الحج بأكثر من سنة كاملة، ولم يكن هناك معنى لهذه المواجهة الصارمة والحازمة من أجل واحد أو اثنين أو حفنة قليلة من المشركين، كما أنه لو كان المقصود أهل مكة فقط لما كان هناك داعٍ أن يكون الإعلان في الحج وسط القبائل المختلفة، بل بالعكس قد يشوش ذلك الإعلان على طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية، وبين القبائل العربية المختلفة، وبالإضافة إلى ذلك فإنه سيكون هناك حكم خاص ببعض القبائل كما سنشير بعد قليل، وهذه القبائل كما ثبت ليست من أهل مكة.
لكل ما سبق، فأنا اعتقد أن المقصود بالمشركين في هذه المجموعة من الآيات هم مشركو الجزيرة العربية دون غيرهم من مشركي العالم.
ثانيًا: لا تعارض بين هذه الأحكام الخاصة بمشركي العرب والآية الكريمة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ لأن هذا الحكم عام في كل البشر، إلا في هؤلاء المشركين من العرب؛ لا لأنهم من العرب، ولكن لكونهم محاربين لرسول الله ودولته، وهذه الحرب -كما ذكرنا- معلنة منذ قديم، والأصل في الأمور أن الحرب ما زالت مستمرة، وقد أعلن المسلمون أنهم سيستمرون في الحرب، ولكن عرض المسلمون شرطًا واحدًا لإيقاف الحرب، وهو أن يُسلم المشركون، فإن أبوا فالأمور على طبيعتها الأولى، أي استمرار الحرب.
فهذا العرض من المسلمين عرض كريم لإنقاذ مجموعة من المحاربين في الدولة الإسلامية، وهو ليس عرضًا دنيويًّا بالمرة، بل على العكس إن المسلمين سيخسرون أموال هؤلاء المشركين، والتي كانت ستصبح غنائم للمسلمين في حالة الحرب، بل قد ينفق عليهم المسلمون من باب تأليف القلب كما حدث في حنين، وهذا يعتبر تسامحًا عظيمًا من دولة قوية لها سطوة على كل أرجاء الجزيرة العربية تقريبًا في ذلك الوقت.
ثالثًا: قد يسأل سائل: وإن قبل أهل الجزيرة العربية أن يدفعوا الجزية كبقية مشركي العالم، ولا يدخلوا الإسلام، أيقبل منهم المسلمون؟
الجواب: لا، لا يقبل منهم المسلمون، فالأصل كما ذكرنا أن مشركي العرب مهدرو الدم؛ لكونهم محاربين، وقد قرر الشرع الحكيم أن يقيم عليهم جميعًا حد القتل الذي كانوا يريدونه جميعًا أن يقع بالمسلمين، ولن يرفع هذا الحد مطلقًا إلا بالإسلام، ولذلك يقول أبو حنيفة رحمه الله: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف.
ولماذا تستقر هذه القاعدة في الجزيرة العربية فقط دون غيرها من البلاد؟
ذلك لأن الله أراد أن يُبقِي هناك مكانًا في الأرض ليس فيه إلا المنهج الإسلامي فقط؛ لأن هذا المنهج من المقرر أن يبقى إلى يوم القيامة منهجًا للمسلمين، ولذلك فحرصًا عليه من الاختلاط بالمناهج الأخرى، ودخول ما ليس منه عليه، حرص الشرع الإسلامي ألا يستوطن في الجزيرة العربية إلا المسلمين فقط؛ لكي يحافظوا على نقاء منهجهم.
ولا يخفى علينا ما يحدث في بلاد العالم المختلفة من تغيرات كثيرة في التراكيب السكانية، وتغير نسب الأديان المختلفة بحسب الظروف والمستجدات، فلو حدث ذلك في الجزيرة العربية أيضًا، لكان ذلك خطرًا على التشريع الإسلامي الذي يجب أن يستمر نقيًّا خالصًا، ومن هنا نفهم وصايا رسول الله بإخراج غير المسلمين تمامًا من جزيرة العرب، وكان حريصًا على ذلك تمام الحرص؛ ليحافظ على منهج الإسلام دون تبديل ولا تحريف ولا حذف ولا إضافة، فنجده مثلاً وهو على فراش الموت يقول، كما روى مسلم عن عمر بن الخطاب t يقول: "لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لا أَدَعَ إِلاَّ مُسْلِمًا". أنه سمع رسول الله
ويقول أيضًا في رواية البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي أوصى عند موته بثلاث: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ"، (ونسيت الثالثة).
وكل هذا يصب في نفس المعنى، ونفس الهدف، وهو ضمان استمرارية نقاء هذا المنهج على الأقل في مكان واحد، وهو عقر دار الإسلام الجزيرة العربية.
رابعًا: وقد يعلق أحدهم بأن التشريع الإسلامي بذلك حرم أهل الجزيرة العربية من حرية الرأي، ومن حرية الاعتقاد، ولكن الإسلام واجه الوثنية، كما يواجه العالم الأميّة الآن، بل هو أشد وأعظم، وخبروني بالله عليكم، هل ينظر العالم نظرة دونية للدول التي ألزمت سكانها بدرجة معينة من التعليم؟ أم يعتبرون ذلك تقدمًا وتحضرًا ومدنية؟
مع أن بعض السكان قد يرى أنه ليس حرًّا في عدم التعليم، وأنه حرم حريته في هذا المجال، ولكن لكون الفائدة عامة على الأفراد والمجتمع، ولكون كثير من الناس لا يعلمون مصالحهم، ومصالح الأمة، جاءت القوانين الإلزامية التي هي في صالح الأمة، ومن خرج على هذه القوانين أخل بالنظام العام، وأضر بالبلد، والعالم كله يقر بمثل هذه القوانين الإلزامية التي تهدف إلى مصلحة الدولة، فلماذا يلام المسلمون على قانون محو الوثنية في وطنهم؟!
خامسًا: هذا القانون (قانون محو الوثنية) غير مطبق إلا في الجزيرة العربية فقط، أما في بقية بلاد العالم الإسلامي، كالشام ومصر والعراق والمغرب وغيره، فإن أهل الأديان الأخرى يعيشون ويستوطنون ويمتلكون ويعتقدون كما يريدون دون تدخل من السلطة الإسلامية الحاكمة، والقاعدة الحاكمة معهم (لكم دينكم ولي دين)، وواقع التاريخ الإسلامي ينطق بذلك في كل مراحله.
سادسًا: وفي داخل الجزيرة العربية لم يمنع هذا التشريع غير المسلمين من دخول البلد لحاجة كسفارة أو تجارة، عدا مكة والمدينة، فإن دخولهما محرم على غير المسلمين؛ لكونها أماكن طاهرة مقدسة، لا يدخلها إلا مؤمن، أما غير ذلك من الأماكن، فقد يمر بها، ويأتي إليها غير المسلمين، ويعاملون أثناء ذلك أحسن المعاملة ويعطون كامل الأمان، وهذا في صلب الدين الإسلامي.
سابعًا: أظهرت هذا الآيات من سورة التوبة درجة من الرقي الحضاري، لا يعرفها أهل الأرض، وهي إعلام الآخرين من أعداء بأن الدولة الإسلامية ستقوم بقتالهم، وهكذا لا غدر ولا خيانة ولا أخذ على حين غرة، إنما التنبيه والتحذير وإعطاء الفرصة الكاملة للطرف الآخر لكي يستعد.
إنها حرب الكريم النبيل، وليست حرب اللئيم الخسيس، لقد رأينا الحروب العالمية في القديم والحديث تقوم على الخيانة والغدر ونقض العهود والطعن في الظهر، رأينا غدر إيطاليا مع ليبيا وأثيوبيا، ورأينا غدر الإنجليز في مصر والعراق وفلسطين، ورأينا غدرهم في الهند، ورأينا غدرهم في الصين، وفي حرب الأفيون الشهيرة، ورأينا غدر فرنسا في الجزائر وسوريا، ورأينا غدر الصليبيين في الشام، ورأينا غدر اليهود في فلسطين، ورأينا غدر الهنود في كشمير، رأينا كل ذلك وغيره مرارًا وتكرارًا.
فأين كل هذا من حضارة الإسلام؟!
هل هناك بلد في العالم تقرر الحرب، فتعطي الفريق الآخر مهلة للاستعداد؛ حتى تكون الفرص متكافئة؟!
أي بلد في العالم!! تريد أن تقطع معاهدة، وتقوم بالحرب، فلا تفعل ذلك إلا بعد إنذار الفريق الآخر بفترة كافية أن العهد الذي بينهم قد أصبح مقطوعًا {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
ليس هذا إلا في تشريع الإسلام، ونتحدى أن يوجد قانون من قوانين الأرض في القديم أو الحديث، أو الشرق أو الغرب يقترب من عدالة وأمانة وعظمة القانون الإسلامي.
ثامنًا: تفاوتت المدة التي أعطاها المسلمون مشركي العرب، حتى يختاروا بين القتال أو الإسلام، فبعض القبائل كانت تعاهد رسول الله t
على عدم الحرب فترة معينة من الزمان، وبعضهم لم يكن يعاهدهم على ذلك، وكل فريق له مدة معينة في الإعلان الذي قام به علي بن أبي طالب
على عدم الحرب فترة معينة من الزمان، وبعضهم لم يكن يعاهدهم على ذلك، وكل فريق له مدة معينة في الإعلان الذي قام به علي بن أبي طالب
أما أولئك الذين كان لهم عهد عند رسول الله ، فقد كانوا ينقسمون إلى فريقين كذلك، فريق كان عهده ينتهي قبل أربعة أشهر، وهؤلاء أتم لهم رسول الله مدة الشهور الأربعة، فلو كان متبقيًا له في العهد شهران مثلاً، زاده شهرين آخريْن، فيصبح الانتظار مدة أربعة شهور، ومن كان عهده ينتهي بعد الشهور الأربعة، فيتم له عهده إلى آخر مدته، مثل بني ضمرة، وحي من بني سليم، فقد أتم لهم رسول الله مدة تسعة أشهر كانت متبقية لهم في عهدهم مع رسول الله في السنة العاشرة من الهجرة، وعلى ذلك فمعظم المعاهدين كان أجلهم ينتهي في العاشر من شهر ربيع الثاني في السنة العاشرة من الهجرة، أي بعد مرور أربعة أشهر كاملة من الإعلان الذي كان في العاشر من ذي الحجة سنة تسع من الهجرة، إلا الذين لهم عهد أطول من ذلك.
وأما الذين ليس لهم عهد سابق مع رسول الله فكانت مدتهم خمسين يومًا فقط هي بقية الأشهر الحرم، كما يقول رب العالمين I: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
ولذلك فمدتهم هي الفترة المتبقية من ذي الحجة وهي عشرون يومًا، بالإضافة إلى شهر المحرم من السنة العاشرة، فتصبح مدتهم خمسين يومًا.
وواقع الأمر أن معظم العرب المشركين دخلوا في الإسلام في خلال هذه المدة المضروبة لهم، ولم يبقَ إلا جيوب قليلة أرسل لها رسول الله بعوثًا حربية، ومع ذلك أمر هذه البعوث أن تبدأ بالدعوة إلى الإسلام، وذلك مثل بعث خالد بن الوليد وقيل علي بن أبي طالب إلى بني الحارث بن كعب، وكان ذلك في ربيع الثاني، أو جمادى الأولى سنة عشر من الهجرة، وكان من نتيجة هذا البعث أن أسلمت القبيلة بكاملها، وكذلك كان هناك بعوث أخرى لأكثر من منطقة من مناطق اليمن، حتى أسلمت معظم اليمن في السنة العاشرة من الهجرة.
تاسعًا: لم يكن الرقي الحضاري الإسلامي في إعلام الآخرين بموعد القتال فقط، ولكن في ملمح آخر في غاية الروعة، ظهر في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
فلو أن فردًا في قبيلة مشركة أراد أن يتعلم الإسلام وجاءك وهو مشرك فأجره، وامنع عنه أي أذى حتى يسمع القرآن، ويفقه الإسلام، فإن لم يقتنع بالإسلام ورفضه، فلا تقتله بل خذه حتى تصل به إلى قبيلته المشركة، ويدخل في أمان قومه، ثم بعد ذلك يقاتل مع قومه ضد المسلمين.
هل هناك من دول الأرض من يفعل ذلك؟ هل هناك رجل من أعداء أي أمة يستطيع أن يطلب دخوله في حماية الدولة المعادية، حتى يسمع ويتعلم مناهجها، فإن لم تعجبه طلب من هذه الدولة أن تعيده آمنًا إلى بلده مرة أخرى؟
إن الواقع الذي نشاهده في العالم اليوم يشهد بأن التشريع الإسلامي تشريع فريد حقًّا لا ترقى إليه تشريعات الأرض الوضيعة.
عاشرًا: أكَّد الله في هذه الآيات التي تتحدث بمنتهى القوة والحزم عن القتال أن الغاية من القتال في الإسلام ليست الثروة، ولا التوسع في الأرض، ولا التأكيد على غريزة التملك والاستحواذ، وإنما الغاية الرئيسية هي دعوة العالمين إلى الإيمان برب العالمين، ولو حدث هذا الإيمان فإن كل عداوة تسقط بصورة تلقائية، ويصبح العدو واحدًا من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
وراجع الآيات التي نزلت في هذه المناسبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
هذا هو جانب القتال الصارم، ثم يقول بعدها مباشرة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
بعد الأمر بالقتال الضاري والوقفة الحازمة، يأتي إخلاء السبيل مباشرة عند أول لحظات الإيمان، وينسى المسلم كل جرائم الحرب السابقة، وكل المكائد والمؤامرات، وكل الانتهاكات بمجرد أن رأى المشرك يبدل بدينه الإسلامَ.
ليس هناك ضغينة مدفونة في القلب، ولا ثأر مطلوب يريد أن ينفذه، واسمع كذلك إلى قول الرحمن في المجموعة نفسها من الآيات: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].
هذه هي صفتهم في حربهم، لا يراعون قرابة، ولا رحمًا، ولا عهدًا، ولا عرفًا، وحياتهم مبنية على الاعتداء الظالم المتكرر.
ومع ذلك تأتي بعد هذه الآية آية أخرى في غاية الرحمة بهم على الرغم من كل تاريخهم، يقول تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
بعد كل هذا التاريخ الأسود يقفز المشركون إلى درجة الإخوان في الدين في لحظة واحدة بعد إسلامهم، لا تجد أبدًا في مناهج الأرض من يقترب من سموّ ونبل هذا المنهج الرحيم، منهج الإسلام.
كان هذا التعليق العاشر على هذه المجموعة العظيمة من الآيات، فتلك عشرة كاملة.
بهذا الإعلان وضحت الرؤية لعموم سكان الجزيرة العربية سواء من المسلمين أو من المشركين، وبعدها بقليل كما ذكرنا دخلت أمة العرب جميعًا في الإسلام، ومن ثم تهيأت الجزيرة العربية، ومكة المكرمة لاستقبال خير البشر في حج العام القادم، العام العاشر من الهجرة؛ ليحج حجته الوحيدة والمشهورة، والتي عرفت في التاريخ بحجة الوداع وسط الحشود الهائلة من المسلمين، دون أن يكون بينهم مشرك واحد لأول مرة في تاريخ مكة منذ مئات السنين حين ابتليت مكة بعبادة الأصنام من دون الله ، وها قد جاء اليوم الذي لا يحج فيه مشرك، ولا يطوف فيه بالبيت عريان.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
6:44 م
مقالات متنوعة
.