--------------------------------------------------------------------

المشاركات الشائعة

زوار المدونة

أحدث التعليقات

المتابعون

إحصائية المدونة

تعلقات القراء

إقرأ أيضا

|

ثورة تونس 2/2 الإثنين,

ما زلنا نحلل هذا الحدث الكبير.. ثورة تونس 2011م.
ثورة تونسذكرنا في المقال السابق "قصة تونس 1/2" أن الحدث في غاية الأهمية، وسيُحفظ غالبًا في ذاكرة التاريخ؛ لما قد ينتج عنه من آثار كبيرة على تونس، وعلى البلاد العربية والإسلامية بشكل عام.. ووقفنا مع الحدث في المقال السابق خمس وقفات كانت خلاصتها ما يلي:
الوقفة الأولى: تهنئة إلى الشعب التونسي على هلاك الطاغية.
الوقفة الثانية: الظلم يصنع نظامًا هشًّا، والطواغيت في حقيقتهم ضعفاء، والشعب أقوى منهم بكثير، ولو أدركت الشعوب هذه الحقيقة لزال ملك الطواغيت سريعًا.

الوقفة الثالثة: يأتي التغيير من حيث لا نحتسب، وقد أجرى الله هذه السُّنَّة؛ لكي لا يغترَّ الناس بنجاح التغيير فينسبوه إلى أنفسهم وليس لله . وكذلك ليبقى الأمل قويًّا في قلوب الناس أن التغيير سيأتي إن شاء الله، حتى لو كانت المعطيات التي بين أيدينا لا توازي قوة الظالمين وبأسهم.
الوقفة الرابعة: الزعماء العرب جميعا تأخروا في إعلان مواقفهم من الثورة لحين إدراك الموقف الأمريكي والفرنسي، ثم خرجوا بعد ذلك بقول متطابق مع أقوالهم! فهم -كما يقولون- يحترمون إرادة الشعب التونسي! والعجيب أنهم في حقيقة الأمر لا يحترمون إرادة شعوبهم أنفسهم، فكيف يحترمون إرادة شعب آخر؟!
الوقفة الخامسة: الأنظمة المادية يبيع بعضها بعضًا؛ فزين العابدين باع كل أعوانه وهرب، وقُوى العالم المختلفة هي الأخرى باعت زين العابدين، وهكذا دنيا المصالح لا مكان فيها للأخلاق والقيم!
كانت هذه خمس وقفات ناقشناها في مقالنا السابق، وفي هذا المقال نقف مع الحدث خمس وقفات أخرى مهمَّة..
ثورة تونسالوقفة السادسة: ما سرُّ التحرك الشعبي الشامل الذي رأيناه في تونس؛ مما أدى إلى فزع الطاغية وهروبه بهذا الشكل المشين؟! يقولون: إن الشعب التونسي يعاني من بطالة شديدة، ويرزح تحت أغلال الفقر والجوع، كما أن نسب الفساد الزائد أثارت الشعب التونسي، فقام بهذا الشكل الجماعي المفاجئ..
هذه بعض التحليلات لسرِّ ثورة الشعب..
ولكني -في واقع الأمر- أرى الأمور من منظور مختلف نسبيًّا..
لا شكَّ أن البطالة والجوع والفساد تدفع الشعوب إلى الانفجار بعد مرحلة من الاحتقان، لكن في رأيي أن هذه الأمور ليست بذاتها هي المحرِّك الرئيسي للأحداث في تونس؛ وذلك لأمرين:
أما الأمر الأول: فهو أن حالة الفقر ليست متردِّية في تونس إلى درجة كبيرة، وكل الأمور نسبيَّة.. فحالة تونس فقيرة بالقياس إلى دول الخليج، ولكنها غنية جدًّا بالقياس إلى اليمن والسودان وعامَّة دول إفريقيا، كما أن الطريق إلى أوربا وكندا مفتوح أمام الشباب التونسي، وليس الوضع المادي محتقنًا إلى الدرجة التي تدفع إلى مخاطرة بالروح، وخروجٍ أمام قوات أمن مفترسة كما يعلم الجميع.
وأما الأمر الثاني: فهو أن الحالة متردية أكثر من ذلك جدًّا في معظم الدول العربية؛ فالفساد في تونس -على عظمه- أقل من دول عربية كثيرة، ولتراجعوا معي هذه الأرقام.. جاء تقرير الشفافية لعام 2009م كاشفًا عن نسب الفساد في دول العالم، وتقرير الشفافية -كما تعلمون- يعتمد على رصد حالات الفساد في الإدارة والمال والانتخابات.. وغير ذلك من أمور، وهو يعطي درجة من عشرة؛ فالدولة التي تحقق عشرة من عشرة لا فساد فيها، ثم يتناقص الرقم بحسب درجة الفساد؛ فالدولة التي تحصل على سبعة من عشرة -مثلاً- تعاني من فساد في ثلاث معاملات من كل عشر معاملات عندها، بينما تسير فيها سبع معاملات بشكل سليم وعادل..
أين تونس في هذا التقرير؟!
حصلت تونس على 4.2 في تقرير 2009م.. وهذا يعني درجة كبيرة من الفساد، ففي كل عشر معاملات داخلية هناك 4.2 فقط عادلة، والباقي فاسد!
هذا مستوى رديء لا شكَّ فيه..
لكن أين بقية الدول العربية؟!
الكويت حصلت على 4.1، والمغرب 3.3، والجزائر 2.8، ومصر 2.8، وسوريا 2.6، ولبنان 2.5، وليبيا 2.5، واليمن 2.1.
والسؤال: إذا كان الفساد هو العامل الأساسي، فلماذا لم تحدث ثورات في هذه البلاد؟!
والبطالة كذلك تتشابه في تونس مع مثيلاتها من دول العالم العربي؛ فنسبة البطالة في تونس 14.1٪، هي نسبة عالية بلا شكٍّ، لكن ما نسب البطالة في البلاد المحيطة؟
البطالة في موريتانيا 33.2٪، وفي اليمن 18.4٪، وفي ليبيا 18.1٪، وفي السودان 17.3٪، وفي لبنان 15٪، وهذه كلها أعلى من تونس..
وبقية الدول تقترب من تونس؛ فالبطالة في الجزائر 13.8٪، وفي الأردن 12.7٪، وفي المغرب 9.6٪، وفي مصر 9٪، وفي سوريا 8.4٪.
مع الأخذ في الاعتبار أن البطالة المقَنَّعَة في كل هذه الدول كبيرة للغاية؛ فالكثير من أفراد الشعب "يعملون" مقابل عائدٍ مادي هزيل للغاية، وهو أقل مما يُصرف كإعانة للعاطلين من العمل في أوربا أو أمريكا!
ومع الأخذ في الاعتبار -أيضًا- أعداد السكان، فلو نظرنا إلى مصر -مثلاً- فإننا سنجد أن نسبة البطالة 9٪ تساوي أكثر من مليوني عاطل (2.188.000)!
فلو تخيلنا أن العامل الرئيسي للثورة كان البطالة، لكانت الثورة أقرب في بلاد أخرى كثيرة في المنطقة، ولك أن تتخيل أن العاطلين عن العمل في مصر وحدها يمثِّلون (ثورة) يتحرك فيها أكثر من مليوني إنسان! فإذا خرجت معهم أسرهم، فهذا يعني تقريبًا عشرة ملايين إنسان! وهو رقم مرعب للغاية، ولا يتحمله نظام حاكم مهما كان..
لكن المشكلة الرئيسية ليست كذلك في البطالة، وإن كانت أحد العوامل المؤثِّرة..
إذن، أين المشكلة؟
وما سرُّ النجاح الذي رأيناه حتى الآن؟
الواقع أن ما أراه هو أن النظام التونسي كان من أكثر أنظمة العالم العربي إهدارًا "لكرامة" الإنسان، ومن أكثرها تقييدًا لحريات الناس، وتكميمًا لأفواههم، وهذا ما يدفع الناس كثيرًا إلى الثورات!
فالكرامة لدينا أهم وأثمن من الطعام والشراب؛ وهذه القبضة المحكمة التي كان يفرضها زين العابدين -ومن قبله بورقيبة- هي التي أدت إلى هذه الحالة من الاحتقان الشديد الذي كان ولا بدَّ أن ينفجر في شكل ثورة. ولقد نَشَرْتُ أحد مقالاتي على موقعي "قصة الإسلام" في الأول من أكتوبر سنة 2009م بعنوان "مصير الحجاب في تونس"، وذكرتُ فيه بالنص: "إن هذا الضغط المستمرَّ على الشعب لن يُوَفِّر لكم الأمان أبدًا، ولن يُثَبِّت أقدامكم أمام عدوكم، ولن يحفظكم -كما تريدون- في كراسيكم.. إن هذا الخصام بين الشعب وحُكَّامه سيقود الشعب حتمًا إلى (ثورة)، وسيأتي زمن يفيض الكيل بالناس فينقلبون على مَنْ يخنقونهم ويذلونهم، وقد لا تكون هذه الثورة منضبطة، وقد تخرج عن حدود المألوف والمعقول"!
ولم يتوقَّف التعنُّت الحكومي عند زين العابدين وبورقيبة عند حدِّ السيطرة الكاملة على كل وسائل الإعلام، وإلغاء المعارضة بكافة صورها، والاعتقالات والتعذيب، والطرد والإبعاد، إنما تجاوزوا كل ذلك إلى ضرب الأُمَّة في ثوابتها الدينية..
وما أبشع أن ترى حاكمًا في دولة يصل تعداد المسلمين فيها إلى 98٪ من سكان البلد إلى أن يصف حجاب المرأة بأنه زي طائفي، ويبدأ في مطاردة النساء المحجبات، ويُصدر التشريعات والمراسيم التي تقنِّن هذا الفجور، وتفرضه على الناس!!
إننا نرى أن معظم القادة العرب يُضيِّقون على الإسلاميين، لكنهم لا يسقطون في جريمة "تسفيه أحكام الدين" بشكل صريح، ويكمِّمون الأفواه لكن يسمحون ببعضها حتى تُمَثِّل "تسريبًا" لحالة الاحتقان؛ فلا يحدث انفجار، ويسمحون بإعلام معارض نسبيًّا يتكلم في قضايا الناس وهمومهم؛ فيستريح الناس وكأن القضايا حُلَّت..
إن هذا ذكاء سياسي من الطواغيت الآخرين، لكن لم يُحسِن زين العابدين هذا الذكاء، فكانت العاقبة التي لم يتوقعها.
وعمومًا هي رسالة إلى كل الزعماء.. هذا الذكاء السياسي يطيل أعماركم في كراسيِّ الحكم، لكنه إلى أجلٍ، ويوم يصل حدّ إهدار الكرامة وتقييد الحرية إلى مستوى معين لا يعلمه إلا الله، ستثور الشعوب، ويحدث ما حدث في تونس.
ثورة تونسالوقفة السابعة: لماذا سمحت أمريكا وفرنسا لهذه الثورة أن تستمر وتنجح؟ ولماذا باعت زين العابدين بهذه السهولة؟ هل خالف زين العابدين في شيء؟ هل خرج عن الخطِّ المرسوم؟
أبدًا.. لم يخرج عن الخط المرسوم! حاشاه أن يخون أمريكا أو فرنسا!
إنما واقع الأمر أنه صار ورقة محروقة!
لقد بلغ من العمر أربعة وسبعين عامًا، وأنا أعلم أنه بهذا السن يعتبر شابًّا بالنسبة لزملاء آخرين! ولكن حالته الصحية ما سمحت له بإدارة البلاد بشكل مناسب منذ أكثر من سنتين، وكانت زوجته تتولَّى إدارة البلاد فعليًّا، وهذا وضع قد يُنذر بانفلات أمني قريب؛ إذ إنَّ القبضة الأمنية والإدارية لن تكون بالإحكام السابق نفسه، ومن ثَمَّ قد تنمو تيارات منظمة داخل تونس تؤدي في المستقبل القريب إلى تغيير ممنهج ومنظَّم، قد يكون إسلاميًّا أو -على الأقل- نظيفًا، ولا يصبُّ في مصلحة أمريكا أو فرنسا.
إذن، فليرحل هذا الكهل الذي لا يناسب المرحلة، وليأتِ غيره ممَّنْ يمكن التعامل معهم بسهولة؛ أي من الذين يسهل شراؤهم من الغرب.. فالمصلحة بذلك أن يحدث التغيير الآن قبل أن تنمو -في ظل القيادة الضعيفة- تيارات إسلامية قوية..
جاء الحدث مناسبًا، وتصاعدت حدَّة غضب الشعب..
كان من الممكن أن تتدخَّل فرنسا.. وكان من الممكن أن تتدخل الشرطة بشكل أعنف من مجرَّد قتل مائة، وكان من الممكن أن يتدخَّل الجيش، حتى لو كان معزولاً عن السياسة الداخلية، لكن في غالب الأمر وردت إشارات أمريكية أو فرنسية مباشرة أو غير مباشرة إلى بعض القيادات الداخلية القوية أن يتيحوا للثورة أن تنتشر.. إنها الآن بلا قيادة.. وهم يريدونها بلا قيادة؛ لأن القائد سيكون من عندهم في حساباتهم، بل لعله معروف من الآن بالاسم، ولعله أحد كبار مسئولي الأمن في البلد.. رجل وُعِد أن يكون زعيمًا، وسيتدخل الغرب ليصنع منه زعيمًا كما صنع قبل ذلك زعماء كُثُرًا!
انطلقت الثورة وتُرِكَت لمصيرها..
من يقودها؟ لا نعلم! ولن نعلم! ولا ينبغي أن نعلم!
ويتعجب العالم أجمع إلاَّ الأمريكيين والفرنسيين، الذين جاءت تعليقاتهم هادئة جدًّا، ورصينة جدًّا: نحن نحترم إرادة الشعب التونسي!
فرنسا التي احتلت تونس 75 سنة متصلة تحترم إرادة الشعب التونسي!!
وأمريكا التي تحتل العراق وأفغانستان، وتمثِّل شريان الحياة للصهاينة في فلسطين تحترم إرادة الشعب التونسي!!
هل يُصدِّق ذلك أحد؟!
ونظرة إلى المستقبل القريب!
هل لو أفلح الإسلاميون في قيادة تونس بعد هذه الثورة، هل ستسكت عند ذلك أمريكا أو فرنسا؟!
هيهات هيهات لما توعدون!
فرنسا رفضت تمامًا انتخابات الجزائر سنة 1990م مع شهادة الجميع بنزاهتها، ووقفت خلف الجيش الجزائري لقمع إرادة الشعب.
وأمريكا رفضت تمامًا انتخابات فلسطين سنة 2006م عند نجاح حماس الإسلامية، مع شهادة الجميع كذلك بنزاهة الانتخابات، واعتبرت حماس جماعة إرهابية، ووقفت مع الذين سقطوا في الانتخابات، وأصرَّت على قمع إرادة الشعب الفلسطيني..
وأمريكا كذلك حذَّرت مصر من التلاعب في الانتخابات سنة 2005م، فنجح في المرحلة الأولى من الانتخابات عدد كبير من الإخوان المسلمين، فكانت النتيجة أن غضَّتْ أمريكا الطرف تمامًا عن المرحلتين الثانية والثالثة؛ ليشهدا تزويرًا فاضحًا دون تعليق. وفي انتخابات 2010م أراحت أمريكا نفسها من التعليق على الحدث؛ ما دامت النتيجة هي قمع الإسلاميين، حتى لو كان التزوير يتم بهذه الطريقة المكشوفة السافرة..
إنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة!
وليست هذه مشكلتهم.. إنما هي مشكلة المسلمين الذين تركوا زمام أمورهم لأهل الأهواء من المسلمين ومن غير المسلمين، وصاروا ينتظرون سماحًا من أمريكا أو فرنسا أو غيرهما، وباتوا يترقَّبون تصريحًا من الغرب بالتغيير! والحقوق -يا إخواني وأخواتي- لا تُوهب؛ إنما تُؤْخَذ!
الوقفة الثامنة: خطيرة جدًّا!!
مَنْ سيجني الثمرة؟
ثورة تونسوهل يمكن تصدير هذه الثورة إلى بلاد عربية أخرى؟ بعبارة أخرى: هل يمكن تكرار النموذج التونسي في دولة أخرى؛ ينتحر شاب فتهيج الأمَّة فيحدث التغيير؟!
إن أخطر ما في هذه الثورة أنها حدثت بشكل عشوائي غير مرتَّب بإحكام.. إنها حوادث عرضية تجمَّعت معًا فأفرزت هذه الثورة الكبيرة.. هذه فرصة كبيرة جدًّا، لكن في ظلِّ غياب الإعداد تضيع الفرص الكبيرة!
هل هذا تشاؤم؟!
لا.. ولا أدعو أبدًا إلى التشاؤم..
لكنه واقعية.. وأنا أرى أن العيش في واقع مؤلم خير من تمنِّي العيش في أحلام وهمية!
إن لله سننًا لا تتبدل أو تتغير.. ومن هذه السنن أنَّ نصر الله ينزل على مَنْ نَصَرَه.. والله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، وهذا لا يكون إلا بإعدادٍ وتخطيط، وحسابات وترتيبات.
لقد كان من جرَّاء الحرب الحكومية على الإسلام أن غُيِّب المسلمون في السجون، أو طردوا أو هربوا خارج البلاد، وفَقَد كثير من الإسلاميين الأمل في العمل على تغيير الأوضاع في تونس، ولم تظهر الحركات المناهضة للحكومة الدكتاتورية منذ عام 1992م تقريبًا.. وهذا الغياب الكبير أفقدَ الشعب القيادة الحكيمة البديلة، وانعدمتْ الرؤية عند الكثيرين، وكنتُ أتمنَّى أن لو قامت هذه الثورة من أجل نزع حجاب امرأة، لا من أجل شابٍّ منتحر!
لا تغضبوا مني قرَّائي الأعزَّاء!
ما قلتُ ذلك إلاَّ شفقةً على الأُمَّة أن تعيش في وهمٍ كبير!
خرج -وسيخرج الكثيرون- ليشعلوا النار في أنفسهم؛ أملاً أن يحدث التغيير، ولن يحدث التغيير ولو أحرق الشعب كله نفسه!
اليائسون لا يُغيِّرون..

إن هذا التغيير العشوائي جدًّا ثمرة سهلة وسائغة في أيدي أعداء الأمَّة..

سيخرج رجل من النظام البائد ذاته، يقول: نحن ضدَّ قوى الظلام، وسنقوم بثورة تصحيح، وسيتم القبض على عددٍ كبير من القادة الذين سيُضحِّي بهم، مع أنهم كانوا أصدقاء له في الماضي القريب! وستُختار مجموعة لا قيمة لها من رموز المعارضة لتجميل الصورة، وسيحدث تخدير للشعب، مع بعض الترغيب والترهيب.. وسيبارك المجتمع الدولي لتونس حكومتها الجديدة، وتهنِّئ أمريكا، وتهنِّئ فرنسا، ويتسابق الإعلام العربي في مدح التغيير الجديد، ويُستقبل الزعيم الجديد الفاتح في ربوع الدنيا.. ولو رفعنا القناع من على وجهه لظهر زين العابدين!!
لماذا هذا الكلام؟!
إنها ليست دعوة للإحباط، إنما هي دعوة للعمل..
لا بُدَّ من إعداد وترتيب..
ولا بُدَّ من تواجد قُوى على الساحة، حتى لو كان الثمن سجنًا وتعذيبًا وقهرًا وبطشًا..
لا بُدَّ من مشاركة مستمرة في الأحداث، ومعايشة للشعب في همومه، وطرح الحلول البديلة ليل نهار، حتى إذا جاءت فرصة كهذه صار المصلحون هم البديل الطبيعي والمنطقي أمام الشعب.. أمَّا الآن فالجميع يُريد الحكم في تونس، وستأتي رموز إسلامية جيدة من هنا وهناك تعرض نفسها، لكنْ صدقوني.. سيقول الشعب: وأين كنتم يوم قمنا بالثورة؟ وسيتنازع الأمر كثيرون، وستتفتَّتْ الأصوات، وعندها سيصعد الرجل الغامض الذي أشارت له أمريكا أو فرنسا بأن يدفع زين العابدين إلى الهروب..
ومَنْ قرأ التاريخ أدرك كل ما سبق!
وراجعوا قصة صعود أتاتورك لكرسيِّ الحكم في تركيا..
ولقد قلنا قبل ذلك في الوقفة الثالثة: إن التغيير يأتي من حيث لا نحتسب. وذكرنا مثال فتح مكة، فقد فُتحت مكة نتيجة خيانة بني بكر لخزاعة، وهو أمر لا يحسب له أحد حسابًا؛ فقريش ذاتها لم تخُنِ المسلمين، لكن شاء الله أن يحدث هذا الأمر غير المتوقَّع ليتمّ الفتح، لكن الاختلاف الجوهري في الموضوع هو أن الرسول والجماعة المؤمنة معه كانوا جاهزين لأبعد درجة.. كانوا جاهزين إيمانيًّا، وعسكريًّا، واقتصاديًّا، وخططيًّا؛ فعندما جاءت الفرصة الكبيرة غير المتوقعة كان رسول الله جاهزًا تمامًا لانتهاز هذه الفرصة، ولجني ثمرة الإعداد الطويل.. إننا لا نعرف متى ستكون الفرصة المناسبة، لكننا نعرف كيف نتهيَّأ لها، ونحن لا نعرف متى يأتي نصر الله، ولكن نعرف كيف نستحقُّ نصر الله!
وعلى هذا، فتكرار المثال التونسي في البلاد الأخرى مستحيل.. بل لا ننصح بتكراره بالصورة نفسها، إنما ننصح بالإعداد الجيد، والترتيب الحسن، وتحمُّل التبعات، والإكثار من التضحيات، فإذا جاءت الفرصة بعد هذا الإعداد كان التغيير راسخًا، وكان الذين يلتقطون الثمرة هم أَوْلى الناس بجنيها.
الوقفة التاسعة: إذا كنَّا ننصح بدراسة التاريخ حتى يمكن لنا أن نحلَِّل الأحداث بعمق، وحتى يمكن أن نرى ما بين السطور، فإن الأولى والأجدى والأهم من ذلك أن ننظر إلى الأمور دومًا من منظور الشرع..
كثيرًا ما نحكم على الشيء بأنه حسنٌ مع أنه في عين الشرع قبيح، ونحكم عليه بأنه حكيم مع أنه في منظور الشرع سفيه، وإذا كان الوضع كذلك فلا شكَّ أن التحليل سيخرج هشًّا هزيلاً لا قيمة له..
ودعوني أطرح مسألتين في هذه الأحداث نحتاج إلى الوقوف أمامهما..
المسألة الأولى: مسألة الشاب المنتحر الذي كان بدايةً للأحداث..
لا ينبغي أبدًا للمسلمين -في ظلِّ حماستهم وعاطفتهم الجيَّاشة نتيجة زوال حكم زين العابدين- أن ينظروا إليه على أنه شهيد، بل ويطالب البعض أن يُقام له تمثال أو تماثيل!
إن الشاب -في حكم الشرع- قام بجريمة منكرة، وهي جريمة الانتحار، ولا ينبغي لنا أبدًا أن نتعاطف مع هذه المسألة، ونبحث عن الأسباب المبرِّرة له.. دعوني أقولها عالية: "لا مبرِّر أبدًا لجريمة الانتحار، مهما كانت الأوضاع متردِّية". إنها حالة شديدة من ضعف الإيمان، قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وقال أيضًا: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
والذي يقتل نفسه غير معذور أبدًا في ذلك؛ فقد صرَّح رسول الله بفساد هذا الفعل، وسوء عاقبته، فقال -فيما رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري-: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا"
راجعوا الصياغة؛ لتدركوا مدى تغليظ النهي، وتبشيع الفعل..
ماذا حدث عندما غابت هذه الرؤية الشرعية عند الإعلام؟ وماذا حدث عندما صوَّروا هذا الشاب المنتحر على أنه شهيد؟
لقد تصوَّر المسلمون أن الفعل حميد، وأنه سيقود إلى تغيير مجيد، بل لعلَّ البعض تصوَّر فيه الحسنات والدرجات العُلا في الجنة! ها هم سبعة حتى الآن يحرقون أنفسهم في مصر، وأربعة في الجزائر، وواحد في موريتانيا.. هذا ما أعلمه.. وقد يكون هناك غيرهم مما لم يشتهر أمره في الإعلام.
إنها كارثة..
إنها مخالفة شرعية جسيمة.. وهي سلبية مقيتة.. وهي طلب للراحة من هموم الدنيا إلى جحيم الآخرة!!
لقد مرَّ رسول الله والصحابة الكرام y بأضعاف أضعاف ما مرَّ به الشاب التونسي، فما انتحر أحدهم، ولا قنط من روح الله.. لقد تفلوا في وجه رسول الله ، وألقوا على رأسه القاذورات، وسبُّوه بأقذع الألفاظ، وقذفوه بالحجارة، وطردوه من بيته، وصادروا ماله، وفعلوا ذلك بأصحابه y، وحتى لو قال أحد الناس: إن الذي تعدَّى على الشاب التونسي امرأة شرطية؛ فجرح هذا كرامته. أقول لكم: إن الذي كان يتولَّى تعذيب خباب بن الأرت -العربي الأصيل الكريم- امرأة، وما سُمح له أن ينتحر أو يقنط.
إنني أرفض تمامًا هذا التكريم الذي يتلقَّاه الشاب المنتحر، حتى لو كانت الثورة ناجحة، وقد نجح فتح مكة مع أن سببه كان خيانة بني بكر لخزاعة، فليس معنى هذا أن نمدح الخيانة، أو نُثني على الخائنين.. إنما الصواب أن نتوافق مع الشرع في أهدافنا، وكذلك نتوافق معه في وسائلنا، فإذا فعلنا ذلك جاء التغيير، وعندها سيكون تغييرًا حقيقيًّا لا وهميًّا، مستمرًّا لا مؤقَّتًا.
أما المسألة الثانية التي أدعو العلماء إلى الوقوف أمامها، فهي قضية استضافة السعودية لزين الهاربين بن علي
لقد صرَّح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أن "الاستضافة عُرف عربي، والمستجير يُجار"
والسؤال: هل تمَّ تداول هذا الأمر مع العلماء في السعودية، أم أن الأمر قد تم تنفيذه، وبعدها يقول العلماء رأيهم في شرعيَّة هذا الأمر؟
إن فصل الدين عن القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية كثيرًا ما يُوقِع المسلمين في مآزق كبيرة..
لا بُدَّ من إعادة النظر إلى الأمر من منظور الشرع..
يقول رسول الله -فيما رواه مسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا". ويقول الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: "والمحدِث هو مَن يأتي بفسادٍ في الأرض". وزين العابدين من أكثر الناس إتيانًا للفساد في الأرض، وأيُّ فسادٍ أكبر من تسفيه الشرع وتبديله صراحةً، هذا غير أنواع الفساد الأخرى في بلاده؟!!
ثم هل يجوز إجارة رجل يملك هو وأسرته معظم مقدرات الدولة التونسية، ويضعها في حسابه الخاص؟ هل يجوز تأمينه فيفلت بهذه الأموال المنهوبة؟ وهل تجوز إجارة من وقع في دماء المسلمين، وعليه عشرات ومئات وآلاف الحدود؟!
وهل يجوز الركون إلى هذا الظالم المفسد مع قول الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 113]؟
وهل يجوز الخوف على مشاعر زين الهاربين، وعدم النظر إلى مشاعر عشرة ملايين تونسي؟ بل إلى مشاعر أكثر من مليار مسلم يمقتون هذا الطاغية؟
إن السعودية بلد إسلامي عظيم، بل إن لها المكانة السامية في قلوب كل المسلمين؛ لما تحويه من كعبة مشرفة، ولما تضمُّه من جسد كريم لخير البشر أجمعين ؛ ولما تحوزه من ذكريات هائلة لخير أجيال الدنيا جيل الصحابة y، وكان من الممكن أن تعتذر بلباقة إلى هذا الظالم المفسد أنها لا تقبل التضحية بمشاعر المسلمين الذين يُقدِّرونها ويحبُّونها ويُقَدِّمونها على غيرها..
فليذهب إلى فرنسا أو أمريكا.. ولتكن نهايته حيث كانت بدايته، ولتتطهر بلاد الحرمين من هذا الرجس والبلاء.
إنها دعوة أتوجَّه بها إلى حكام السعودية وعلمائها؛ عسى ربُّنا أن يرحمنا، وألاَّ ينزل علينا سخطه ولعنته.
الوقفة العاشرة: يا أهل تونس الكرام..
ثورة تونسلكم في قلبي فوق ما تتصوَّرون من الحب.. وكم يدق قلبي طربًا عندما أقابل مسلمًا في الغرب أو الشرق فأسأله عن بلده فيقول: من تونس. فحبِّي لكم قديم قديم.. إنه حبٌّ يمتدُّ إلى قرون! بلد مجيد، وتاريخ مشرِّف، وشعب أصيل، وأيادٍ بيضاء ليس على المسلمين فقط، بل على الدنيا جميعًا.. بكم فُتحت صقلية؛ ومنها وصل الخير إلى أوربا، وقبلها شاركتم في فتح الأندلس، ومنها انتشر الخير إلى الدنيا، وكنتم قاعدة المسلمين إلى كل ربوع إفريقيا..
أحبكم في الله.. حبًّا يملك عليَّ كياني، ويهزُّ وجداني..
"أنا تونسي".. كلمة تشجيني وتسعدني..
أشعر أنني أمام جبل.. رجلاً كان أو امرأة.. ثباتٌ على الدين رغم الاضطهاد، حبٌّ للإسلام رغم المحاربة.. تمسك بالشريعة رغم التحريف والتزوير.. تميُّز في الهوية رغم التغريب..
فيا أهل تونس الأحباب..
من منطلق حبي لكم، وخوفي عليكم.. لا تقبلوا بديلاً عن الإسلام!
سيطرح أمامكم الغرب والعلمانيون والاشتراكيون والليبراليون آلاف البدائل والأطروحات، فلا تَرْضَوا عن الإسلام بديلاً..
دينك دينك لحمك دمك!
قد يتلو هذا الاختيار معاناة.. بل عفوًا.. سيتلوه -حتمًا- معاناة!
ولكنها معاناة في سبيل الله، فما أروعها! إنه جهاد في سبيل الله، فما أسماه! وإنه في النهاية عزُّ الدنيا وعز الآخرة..
نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله..
أمامكم اليوم فرصة فلا تضيعوها..
اسمعوها منِّي يا أهل تونس:
"الثبات على الثورة الآن أسهل ألف مرة من ثورة جديدة بعد عامين أو عشرة"!
معنوياتكم اليوم عالية.. قلوب المسلمين كلها معكم.. تضحياتكم سهلة.. عدوُّكم ضعيف.. مبغضكم صامت.. هي فرصة..
لو ثبتُّم على ثورتكم حتى يتولَّى أمركم مسلمٌ يخاف الله ويتَّقيه، ويحرص على الشريعة ويحبُّها، ويتَّبع رسول الله في كل خطواته، صار لكم فضل السبق، وحُزتم شرف الريادة، ونقلتم تجربتكم إلى الأُمَّة العطشى، التي اشتاقت أن تروي ظمأها بالإسلام..
ولو استعجلتم أمركم، واستراحت أجسادكم، فسرق أحدُهم ثورتكم، وجنى ثمرتكم، وتولَّى زمام بلدكم ذَنَبٌ من أذناب الغرب، أو شيوعيٌّ أو علماني، فلا أرى الأمر إلا نكسة كبيرة، وقد تُورِث إحباطًا في جسد الأمة بكاملها..
فاللهَ اللهَ في دينكم..
والله الله في أمَّة الإسلام..
والله الله في أنفسكم وأهليكم..
فاعملوا في الدنيا، وعيونكم على الآخرة..
وإنها لجنَّةٌ أبدًا، أو نار أبدًا..
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين 1:18 ص .

0 التعليقات "ثورة تونس 2/2 الإثنين,"

شاركنا برأيك ولا تحرمنا من قلمك

الأرشيف