قراءة في المشهد العربي.. انقسام، فتنة، ثورة
بات المشهد العربي خلال العقدين الماضيين أكثر تشابكًا وتداخلًا بين خيوطه يعجز معه المحلليين والمراقبيين تحديد أى القضايا المطروحة على الساحة العربية، هى قضية العرب الأولى. وفى الفترة الأخيرة ازداد الوضع تعقيدًا، وصاحبه مزيد من الحيرة والقلق فى تحديد أى من قضايا العرب حاليًا أكثر خطورة. فلأول مرة من المحيط إلى الخليج يصبح العالم العربي كله بمثابة كتلة نار مشتعلة تتدحرج وسط حقول القمح اليابسة لتقضي على الحاضر والمستقبل. وتكاد صورة العالم العربي حاليًا تكتسي بالسواد: بين تمزيق وتقسيم، وفتنة طائفية وصراعات دينية، بين شغب وثورة ضد القهر والظلم وبين هذا وذاك صراع بين الأخوة وحرب على الجاه والسلطان.
هذا هو في الواقع مُجمَل الوضع في عالمنا العربي حتى كتابة هذه السطور، المستفيد منه فقط قوى إقليمية متربصة لسقوطه للانقضاض علىه لالتهام ونهب ثرواته والتحكم في مقدراته وامكانياته.
فكثرة الأسقام والأمراض التى تفشت داخل الجسد العربي أنسته ألمه الأساسي ومرضه المزمن، ألا وهو فلسطين، قضية العرب الأولى أو بالأحرى، التي كانت قضيتهم الأولى في يوم من الأيام، بعد أن تقهقرت وتراجعت إلى وسط صفوف الأولويات العربية، التي تراكمت وسط عجز عربي مشين لحلها أو التصدي لها، فقد باتت قضايا الآن أكثر حيوية تملأ أروقة الجامعة العربية ضجيجًا وصخبًا، من اليمن والسودان جنوبًا، والعراق ولبنان شرقًا، وفي الساعات الأخيرة تونس والجزائر غربًا.
شبح التقسيم
لا شك أن الغزو العراقي للكويت في مطلع تسعينيات القرن الماضي كان المسمار الأول في نعش وحدة الأمة العربية، والشرارة الأولى التي أشعلت نار الفتنة بين الأخوة في العروبة، ومعه إنهار ما تبقى من نظرية القومية العربية، فقد انقسم الصف العربي بين مؤيد ومعارض ومنذ ذلك الوقت وهو لا يزال يئن من وطأة هذا الانشقاق حتى اليوم، ولعل ما فعلة الرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزوه للكويت كفيل بمحاكمته أمام محكمة التاريخ التي ستدينه بلا ريب بتهمة التسبب فى دخول قوات الاحتلال الأجنبية إلى منطقة الخليج العربي للمرة الأولى ولم تخرج منها حتى الآن رغم زواله نفسه عن عالمنا.
وجاءت الطامة الكبرى على العرب مع الغزو الأنجلوأمريكي للعراق عام 2003م وحمل معه الإعلان الرسمي لتقسيم بلاد الرافدين، تقسيمًا طائفيًا ومذهبيًا وعرقيًا، وتبدو مسألة تقسيم العراق القائمة حاليًا على أرض الواقع، ليصبح بعد ذلك على ورق الخريطة مسألة وقت، لتتحول أكبر قوة عسكرية عربية إلى دويلات متناحرة موالية لجهات إقليمية، تتحكم في سياساتها وتوجهاتها.
لا جدل في أن العراق كانت النموذج العربي الأول -في إطار المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد- الذي يواجه خطر التقسيم وشبح التفتيت، تليه أكبر دولة عربية من حيث المساحة وهى دولة السودان التى باتت على شفا التقسيم بين سودان إسلامي في الشمال، ودولة مسيحية في الجنوب.
فتقسيم السودان الذى بات على الأبواب جاء بمباركة عربية مريبة نتيجة للصمت على جريمة الموافقة على إجراء استفتاء التقسيم فى الأساس، الذي مع أيامه الأولى أعلن فيه السودانيون الجنوبيون ارتياحهم بالانفصال عن الشمال مهما كان الثمن.
يأتي تفتيت السودان إلى دويلات ليوجه ضربة قاسمة لمستقبل الاقتصاد العربي، نظرًا لتمتعها بمقدرات اقتصادية هائلة، سواء زراعية، صناعية، وتعدينية، وما لبث أن شهدت الأوضاع الاقتصادية في السودان تحسنًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، إلا وأن توجهت لها الأنظار الامبريالية، لتقضي على آمال صعود قوة اقتصادية عربية جديدة.
وليس هناك أدنى شك في أن انقسام السودان سيكون له تداعيات عربية بالغة الخطورة تتجاوز حدودها لتصل إلى الدول العربية المجاورة: مصر، ليبيا وأريتريا، ليواصل سرطان التقسيم استشرائه في ثنايا تلك الدول أيضًا.
مستقبل ضبابي
ولعل أبرز الانقسامات التى يعانيها عالمنا العربي وأشدها وطأة ومأساوية، هو الانقسام الفلسطيني الذي تحول من جهة إلي انقسام مادي ملموس بفعل دولة الاحتلال، وانقسام معنوي محسوس بفعل الفلسطينيين أنفسهم من جهة أخرى، دون اتهام فصيل فلسطيني عن آخر بمسئوليته عن تضييع قضية فلسطين التي حارب العرب من أجلها لأكثر من 60 عامًا.
فالفلسطينيون بانقسامهم بين الضفة الغربية وقطاع غزة وعجزهم حتى الآن عن تصحيح الأوضاع وحل الخلافات، رغم تدخل أطراف عربية عديدة بينهم لرأب الصدع، يساهمون أكثر في ضياع القضية ليفتحوا بأيديهم -لا بيد غيرهم- الباب على مصراعيه لدولة الاحتلال لتعربد وتمارس البلطجة السياسية على الساحة الفلسطينية، كما يحلو لها.
فالقضية الفلسطينية في ظل تزايد التحديات الإقليمية، وتراكم القضايا العربية التى باتت في حاجة إلى أولولية لحلها، تواجه مستقبلاً أكثر ضبابية غير واضح المعالم، يحتاج فيه الفلسطينيون إلى توحيد كلمتهم، وجمع قوتهم، للوقف أمام عدوهم الحقيقي، وليتناسوا الخلافات بينهم، ويتغاضوا عن مساوئ الماضي، لكي يعودوا بقضيتهم إلى مسارها الصحيح، وتحت المظلة العربية، دون أن يتركوا أنفسهم أداة فى يد قوى إقليمية، تحركهم كيفما تشاء، لتحقيق مصالحها ومخططاتها، وليس من أجل نصرة المقاومة والوقوف إلى جوار هذا الشعب المغوار، كما يتخيل البعض. فالمصالحة الفلسطينية هي السبيل الوحيد، لعلاج أخطر الانقسامات الحالية التي نعانيها في عالمنا العربي. ولتكن فلسطين هى البداية كما كانت في السابق، الكلمة التى توحد العرب على نصرتها.
فتن وصراعات دينية
وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن أعراض مرضية أخرى يعاني منها الجسد العربي نجدها في أحداث الفتنة الطائفية والصراعات الدينية التى اجتاحت عدد من الدول العربية في السنوات الأخيرة، فإلى جانب العراق، تبرز الفتنة الطائفية بأبشع صورها فى لبنان ومصر، والتى باتت أقوى العناصر المهددة لاستقرارها الاجتماعي والسياسي. فالأخيرة ترزخ منذ سنوات تحت وطأة الانقسامات الطائفية والصراعات الدينية بين المسلمين والأقباط والتى بلغت ذروتها مع تفجير كنيسة القديسيين فى الإسكندرية.
ورغم المحاولات الشعبية لتهدئة الأوضاع المضطربة، لكن الجهات الخارجية تنفخ في نيران الفتنه الطائفية لتشعلها بأي ثمن. ومع ذلك فالأوضاع داخل مصر مرشحة للإنفجار بقوة لتدخل أرض الكنانة في دائرة حرب أهلية غير مسبوقة بين المسلمين والأقباط.
ولعل السيناريوهات التي يضعها الخبراء والمحللون لمصر لا تختلف عن السيناريو الذى تشهده السودان وتونس حاليًا.
لا شك أن حالة الاحتقان الداخلي في مصر، على جميع المستويات قد تنذر باشتعال الانفجار المرتقب في أي وقت، لتكون أم الكوارث على العالم العربي نظرًا لما تمثله مصر من مكانة إقليمية وعربية تاريخيًا وفى الوقت الحاضر، مما يجعل سقوطها بمثابة انهيار كامل للعالم العربي، وليس لنفسها فقط.
وحال الفتنة الطائفية فى لبنان ليس أفضل منه، بل أشد وطأة، نظرًا للتدخلات الإيرانية السافرة بالوقوف خلف حزب الله الشيعي، ضد أهل السنة.
ولعل الأوضاع الأخيرة التى أعقبت حل حكومة الحريري خير دليل على المصير المجهول الذي ينتظر لبنان خلال الفترة القادمة، وبخاصة بعد أن أجمع الخبراء والمتابعين للشأن اللبناني على أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من الدخول فى دارة مفرغة تؤدي لحرب أهلية جديدة تلعب قوى إقليمية دورًا حاسمًا فى إذكاء نارها وإشعال لهيبها.
ومن غير المستبعد أن يفيق العالم العربي على واقع جديد فى لبنان بين ليلة وضحاها، خاصة مع اقتراب الموعد الذي ستعلن فيه المحكمة الدولية نتائج التحقيقات بشأن المسئولين عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والتي من المتوقع أن تسفر عن تورط مسئولين بازرين فى حزب الله الموالي لإيران في عملية الاغتيال، خاصة إذا تذكرنا تهديدات حسن نصر الله، بقطع يد كل من تمس أي من قيادات الحزب في حال إثبات تورطه.
ثورة وشغب
لعل من أبرز الظواهر التى شهدتها العديد من الدول العربية فى الآونة الأخيرة هي ظواهر الشغب والتمرد على الأنظمة الحاكمة، ويبدو أن سقوط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن على، بعد ثلاثين يومًا متواصلة من أعمال الشغب والاحتجاج ضد الغلاء وتزايد معدلات البطالة، خير دليل على تفشي تلك العدوى في عدد من الدول العربية والتى كان أبرزها مؤخرًا فى الجزائر وليبيا.
فالعالم العربي على مشارف ما يمكن أن نطلق علىه ثورة الجياع، نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفساد والمحسوبية بين الأوساط الحاكمة.
رغم ذلك لا يمكننا استبعاد ضلوع أياد خفية خارجية فى إشعال مثل هذه الحالات من التمرد والشغب. ومما يعضض كلامنا هو تأييد الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا لثورة الشعب التونسي ضد نظام بن على، الذي ظل لسنوات طويلة فى دعم وحماية الغرب، الذى صمت طواعية على فساده وتجاوزاته ضد الشعب التونسي، لما يحقق له أغراضه ومآربه. الأمر الذي يضع حاليًا باقي الأنظمة العربية المعمرة، فى ورطة حقيقية، خوفًا من انتقال العدوى التونسية إلى شعوبهم.
وهناك تمرد من نوع آخر تشهده اليمن فى السنوات الأخيرة، سواء تمرد الحوثيين فى صعدة شمالًا، أو صعود المتمردين اليمنيين فى الجنوب، بشكل بات لا يهدد فقط استقرار اليمن، بل منطقة الخليج بأثرها.
ولعل تصريحات الأمير تركي الفيصل الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العامة والسفير السابق للرياض في واشنطن، تلخص مجمل الأوضاع فى اليمن حينما وصفها بأنها تمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا للسعودية على المستويين الحدودي والداخلي.
وقال خلال محاضرة ألقاها في جامعة كامبريدج: "هناك حالة تفسُّخ في اليمن سببها التمرُّد في الشمال والحركة الانفصالية في الجنوب، مما سمح للقاعدة بالعمل واكتساب القوة.
فالإرهاب ينبع من اليمن وينتقل إلى المملكة، كما تتدفق أعداد من اللاجئين إلى السعودية عبر الحدود بسبب التوترات في اليمن".
حالة القلق هذه التى لخصها المسؤول السعودي السابق تعكس مدى خطورة الأوضاع فى اليمن التى باتت خطرًا محدقًا على الأمن القومي العربي فى منطقة الخليج كلها.
على أية حال فالمتأمل حاليًا فى المشهد العربي، وبنظرة تعمق وتمعن لا يمكنه أن يدرك سوى شيئًا واحدًا فقط هو أن تلك الأمة في طريقها لاستخراج شهادة وفاتها، وأنها حاليًا في مرحلة الموت الإكلينيكي، لكن يقيني التام وإيماني المطلق بأن هذه الحالة، هي التي يريد أعداء الأمة أن يصل من خلالها أبنائها إلى فقدان الأمل المصحوب بمشاعر الإحباط واليأس، يجعلني أكثر ثقة فى أن تلك الأمة سوف تستفيق، وتعيد حساباتها مجددًا، وأن بارقة الأمل التي خرجت من تونس الخضراء قد قلبت كافة الموازين، وأعطت الأمل لأبنائها، أنهم في استطاعتهم تغيير الوضع أي كان الثمن، وليعودوا كما كانوا "خير أمة أُخرجت للناس"
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
2:06 م
مقالات متنوعة
.