ضوابط الإسلام لضمان عدم انحراف المسئولين
إن من أكبر المشكلات التي تواجهها النظم الوضعية والحركات الإصلاحية هو انحراف المسئولين والقادة عن المبادئ والأسس التي قامت عليها.
وقد يكون هذا الانحراف تدريجيًّا، يبدأ صغيرًا ويزداد مع الزمن وقد يصل الانحراف مداه بأن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء وما قامت من أجله الحركات الثورية أو التنظيمات الإصلاحية يصبح أثرًا بعد عين.
على سبيل المثال قامت ثورة يوليو في مصر وكان من أهدافها القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال والقضاء على الاستعمار وإنشاء حياة نيابية سليمة وغيرها، وتمت إجراءات ووضع دستور لتحقيق هذه الأهداف, ولكن ماذا حدث بعد خمسين عامًا؟ لقد سيطر رجال الأعمال على الحكم وخضعت إرادتنا السياسية للأمريكان واليهود وزاد القمع من أجل تكبيل الحريات وتزوير الانتخابات, وتم تغيير الدستور ليكون مواكبًا لهذه التغيرات، والتي هي انقلاب على الأساس التي قامت عليه ثورة يوليو، وهي المرجعية الشرعية لنظام الحكم في مصر.
وحدث مثل ذلك في الثورة الفرنسية التي قامت، وأعلنت مبادئ حقوق الإنسان ورفعت راية الإخاء والمساواة، ثم ما لبثت أن خالفتها فانتهكت حرمات الفرنسيين وتعدت مخالفة القائمين بالثورة إلى خارج فرنسا فكان غزو فرنسا لمصر واحتلالها للبنان وسوريا والجزائر.
وعن الحملة الفرنسية على مصر فحدث ولا حرج عن الدماء التي سالت والنفوس التي أزهقت، وكل ذلك مخالف للمبادئ الأساسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية.
وقامت الثورة البلشفية منادية بمساواة الناس جميعًا وشيوعية المال وتحريم الملكية الفردية والطبقية والانتصار للعمال والكادحين، وبعد سنوات قليلة صارت المجتمعات الشيوعية إلى طبقتين الطبقة الحاكمة أو طبقة أعضاء الحزب الشيوعي والطبقة الأخرى بقية الشعب، وبالطبع كانت الطبقة الأولى لها كل المميزات المادية والمعنوية والطبقة الأخرى محرومة من كل شيء، ثم ما لبثت أن انهارت مبادئ الشيوعية على أيدي المنادين بها.
ونفس الأمر تكرر مع النظم الرأسمالية، والتي في نظامها تمنع الدولة احتكار رأس المال وتتدخل لجعل المنافسة بين رأس المال لصالح المجتمع، ولكن سرعان ما تغلب سيطرة المال على قرار الساسة بل أصبح رجال الأعمال هم الساسة الذين يسيرون مقاليد البلاد لصالحهم, بل ترسم سياسات الدول من أجل مصالح فئة قليلة يمتلكون الشركات المتعددة الجنسيات.
وبعد الحرب العالمية الأولى أنشأت عصبة الأمم بغرض المحافظة على السلام العالمي، ولكن منشئوها تعنتوا مع الدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى "ألمانيا وإيطاليا" فدفعوهم لإعلان الحرب العالمية الثانية، وبعدها أنشأت الأمم المتحدة بغرض إرساء قواعد السلام للعالم، ولكنها صارت مطيةً لأهواء أمريكا وأطماعها الاستعمارية.
مما سبق يتضح أن كل النظم الوضعية كثيرًا ما تنحرف عن قواعدها وأسسها, وما يقال عنه أنه مبادئ وحركات ثورية سرعان ما تعود أدراجها وتنقلب على أعقابها؛ وذلك كله لأن هذه المنظمات وتلك المبادئ لا تحتوي على عوامل بقائها أو على مناعة ذاتية تمنع الانحراف عنها والحيدة عن اتجاهاتها.
ولكن الأمر مختلف في المنهج الإسلامي فهو يحمل في نظامه عوامل بقائه ويضمن في تشريعاته ما يمنع أي أحد أن ينحرف عن المنهج أو يحيد عن هذا النظام.
ولأن الانحراف عادةً ما يكون من القادة والمسئولين فإن الإسلام شرع تشريعات تقيد القادة وتسائل المسئولين فلا يحيدون عن المنهج الإسلامي الذي ارتضاه الله تعالى لنا نظامًا ودينًا.
فما الضمانات التي شرعها الإسلام لتمنع انحراف القادة عن المنهج الإسلامي:-
فما الضمانات التي شرعها الإسلام لتمنع انحراف القادة عن المنهج الإسلامي:-
إن هذه الضمانات هي:
- حق الأمة في محاسبة حكامها.
- وضوح المنهج وتداوله للعامة والخاصة.
- وجود العلماء الشرعيين واستقلاليتهم.
- استقلال القضاة" استقلال السلطة القضائية".
- وجود أماكن وشعائر للتجمع وتكوين الرأي العام "المساجد والصلاة".
ولنبدأ بأول هذه الضمانات في الإسلام:
أولاً: حق الأمة في محاسبة حكامها
قديمًا كان الملوك والرؤساء يدعون الألوهية ولم يكن مقصودًا بذلك أن يصلي الناس لهم، بل أن يأتمروا بأمرهم ولا يناقشوهم في أعمالهم وأفعالهم، فالنمرود ملك العراق كان قومه يعبدون الأصنام ولكنه كان ديكتاتوريا بالمصطلح الحديث لا يسأل عن أفعاله لا يناقش فيها حتى إنه قال "أنا أحي وأميت، آمرُ بإعدام هذا فأكون قد قتلته، وأعفو عن آخر فأكون قد أحييته"، وفرعون مصر لم يكن يعبده المصريون بمعنى العبادة المتعارف عليها الآن بل هو السمع والطاعة المُطلقة له وعدم مناقشته في أي أمر، وقد عبَّر فرعون عن معنى تنصيبه إلها للمصريين بقوله ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: من الآية 29)، وقد كان المصريون يتعبدون في معابدهم في وجود الكهنة، ولكن يخضعون في حياتهم لفرعون دون مناقشة.
هذه الممارسة من الشعوب والحكام، التسلط المطلق من الحكام والخنوع المطلق من الشعوب موجود حتى الآن، فنجد مَن يقول إن توجيهات السيد الرئيس تعليمات تنفذ بالحرف الواحد، ونرد- في نفس الوقت- على الله شرعه ونتهم الإسلام ودعاته بالرجعية.
أردت بهذه المقدمة أن أوضح أن الإسلام حين شرع حق الأمة ومحاسبة حكامها ومعارضتهم إنما جاء لمنهج لم يكن معلومًا قبله، وتعلمت كل النظم الوضعية بعد ذلك من الإسلام هذا المبدأ وطبقته في نهضتها، فلم تكن أوروبا تعرف شيئًا سوى الخنوع لملوكها وخضوعها لرجال الدين فتعلموا من المسلمين حرية الرأي ومناقشة ولاة الأمر ومعارضتهم إذا لزم الأمر.
ولأهمية هذا الحق للأمة نجد أن أبا بكر الصديق يؤكد هذا الحق في أول خطبة له للخلافة قائلاً: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعةَ لي عليكم"، وقال عمر: "إن وجدتم فيَّ عيبًا فقوموني"، وحينما قام أحد المسلمين ليقول له لو وجدنا فيك عيبًا لقومناه بسيوفنا".. لم يغضب عمر من هذا التجاوز في التعبير عن الرأي، ولكنه قال "الحمد لله الذي جعل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَن يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه".
وقد كان الخلفاء المسلمون يشجعون الرعيةَ على إبداء رأيهم في أمرائهم، وقد ورد كيف أن عمر كان يجتمع بالناس في وجود أمرائهم ليسمع منهم سير ولاته فيهم، وقد كان بعض الناس ينتقدون أمراءهم بصورةٍ قد تتسم بالوقاحة أحيانًا ولا تخشى تبعة ذلك، فقد ورد أن عمر بن الخطاب قد أرسل محمد بن سلمة لأهل العراق يسألهم عن رأيهم في سعد بن أبي وقاص وقد كان واليًا عليها؛ وذلك في حضوره فقام رجل وقال:"إنه لا يعدل في القضية ولا يقسم بالسوية"، واجتمع مع أهل الشام ليسألهم عن رأيهم في سعيد بن عامر فقالوا: "لا نعيب عليه شيئًا إلا أنه يتأخر علينا في صلاة الفجر، ولا نراه ليلاً، وتصيبه أحيانًا إغماءة"، وقد كانت الإجابة من سعيد بن عامر عن هذه الأسئلة بأنه ليس لديه خادم فهو يخبز الخبز لأهله فلا يخرج ليلاً، وأن لديه حلة واحدة يغسلها مساءً فينتظر حتى تجف ثم يخرج لصلاة الفجر، وعن الإغماءة التي تصيبه أحيانًا أجاب: إنه حضر إعدام خبيب بن عدي وكان على الكفر آنذاك فكلما تذكَّر مشهد إعدامه خرَّ مغشيًا عليه خوفًا من الله.
والأمة كانت تعلم أن من حقها محاسبة الحكام والأمراء في الأموال التي يجمعونها كيف يجمعونها وكيف ينفقونها.. فقد قام رجل أثناء حديث عمر بن الخطاب في المسجد قائلاً له: "لا سمع ولا طاعة لك يا عمر" قال عمر للرجل: ولِمَ؟ قال الرجل: لأنك أخذت ثوبين وأعطيت كل واحد منا ثوبًا واحدًا، فطلب عمر من ولده عبد الله أن يجيب عنه، فقام عبد الله بن عمر قائلاً: أعطيتُ أبي ثوبي؛ لأنه صاحب بسطةً في الجسم على أن يعطيني ثوبه في المرة القادمة، فقال الرجل: الآن لك السمع والطاعة يا عمر، فهذا الرجل من عوام المسلمين يعلم أن من حقوقه أن يراقب حاكمه في طريقة إنفاقه للمال.
إن هذا المبدأ حق الأمة في محاسبة حكامها مبدأ إسلامي أصيل يمنع الحاكم من الجور والظلم.
وقد حثَّت أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نصيحة الحاكم ومراجعته بل ومجاهدته باللسان وقد يصل الأمر إلى مجاهدته بالسنان إذا لزم الأمر.
أما في النصيحة فيقول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" (رواه مسلم)، وإذا لم يستجب ولي الأمر للنصح والإرشاد فعلى الأمة أن تجاهده بلسانها يقول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وقال صلى الله عليه وسلم مبينًا أن انهيار الدولة الإسلامية يبدأ بعدم مقاومة الحكام الظالمين؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا هابت أمتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُودِّع منها"، وفي رواية "فبطن الأرض خيرٌ لها من ظهرها".
وإذا استمر الحاكم في غيه وظلمه فقد أجاز بعض الفقهاء الخروج عليه بضوابط شرعية لها مكانها في كتب الفقه.
وعلى هذا المنهج سارت الأمة قرونًا طويلةً تستشعر فيها حقَّها في محاسبة القادة والحكام، ويستشعر القادة حق الأمة في ذلك حتى جاءت الحكومات المستبدة من خلال انقلابات عسكرية لتصادر هذا الحق وتمنعه.
وقد تعارفت الشعوب الآن على صورٍ من مظاهر التعبير عن الرأي وانتقاد الحكام مثل المظاهرات والإضرابات والاعتصامات، وهي كلها تعبيرٌ عن حقِّ الأمة في نصيحة حكامها أو إبداء رأى نحو موضوع معين وهذا لا يتعارض مع الإسلام إذا التزمت الضوابط الشرعية والأخلاقية.
وفي الإسلام أهل الحل والعقد هم رؤساء العشائر وأرباب الحرف وقادة المجتمع ولهم الحق في نصح الحكام والاستدراك عليهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر، وقد تكون المجالس النيابية وحقها في مناقشة الحكومات وسحب الثقة منها هي إحدى الصور الحديثة لهذا الأمر.
وهكذا قرر الإسلام حق الأمة في محاسبة حكامها وأعطى مدلولات شرعية لهذا الأمر بدايةً من النصيحة ثم المجاهدة ثم العزل كل بضوابطه الشرعية وأعطى هذا الحق للأفراد والجماعات والهيئات بضوابطها أيضًا.
ثانيًا: وضوح المنهج وتداوله للعامة والخاصة
وإذا كان الإسلام قد قرر حق الأمة- أفرادًا وجماعات- في مراجعة ومحاسبة قادتها فإنه قد أوضح المنهج الذي ستتم به المحاسبة، فلا معنى لمحاسبة بدون مرجعية يحاسب عليها الحاكم والمحكوم.
إن عظمة المنهج الإسلامي في أنه سهلٌ ميسورٌ للجميع وعمدته القرآن الكريم؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)﴾ (القمر)، والقرآن عربيًّا يفهم طبقًا لقواعد اللغة العربية يقول تعالى: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (النحل: من الآية 103)، ولأن المسلمين مطالبون بتلاوة القرآن تعبدًا وتدبرًا وعملاً وحكمًا فمعنى ذلك أنه ستكون لديهم المرجعية التي سيقاس عليها أعمال القادة والحكام.
يروى أن عمر بن الخطاب وقف على المنبر يأمر المسلمين بعدم المغالاة في المهور فقامت إليه امرأة لتعترض عليه قائلةً: "كيف تحدد المهور وقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20)﴾ (النساء)؟!، وتدارك عمر بن الخطاب الأمر فقال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
إن هذه المرأة وهي من عموم المسلمين وليست من علمائه اعترضت على عمر لمخالفة اجتهاده صريحَ القرآن.
ومثال آخر:
يُروى أن عمر بن الخطاب كان يتفقد أحوال رعيته ليلاً وأثناء مروره في شوارع المدينة سمع صوت رجل ينبعث من داخل بيته يدل على أن الرجل يحتسي الخمر, فتسوَّر عمر بن الخطاب الجدار ونزل إلى ساحة البيت, فوجد الرجل يشرب الخمر, فقال له: ويحك أو تظن أن الله لا يراك؟! فأجاب الرجل: يا أميرَ المؤمنين، خالفتُ ربي في واحدة وخالفتَه أنت في ثلاث, لقد تجسست عليَّ والله يقول: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾ (الحجرات: من الآية 12)، وتسورت على الجدار والله يقول ﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ (البقرة: من الآية 189)، ولم تستأذن قبل دخولك عليَّ والله يقول ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ (النور: من الآية 27)، فقال له عمر: أتركك على ألا تعود؟ فأجاب: لا أعود يا أمير المؤمنين.
إن الله تعالى أنزل القرآن ليكون منهاجَ حياة للناس ويسَّر فهمه وتداوله وتعهَّد بحفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾ (الحجر)؛ ليظل القرآن هو المرجعية الأولى للمسلمين يتحاكمون إليه ويتناصحون على أساسه.
ونفس الأمر بالنسبة للسنة النبوية الشريفة فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح يتأسى به الجميع ليكون حجةً على الخلق ويوضح التطبيق العملي للإسلام.
إن الأحبار والرهبان- اختصوا لأنفسهم حق الفهم والتفسير لنصوص التوراة والإنجيل، وإن الفلسفات والنظريات الوضعية تظل مرهونةً بتفسير أصحابها قاصرة عليهم وقاصرة أن تواكب المستجدات وتسير مع المتغيرات.
ولكن القرآن مواكب لكل زمان ومكان, يسَّر الله فهمه وبيَّن معانيه لذلك يسهل على الجميع قراءته وسماعه، فيهم المراد منه.
ولأن القرآن متداولٌ بين الأمة علمًا وتعليمًا، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في تحريها المسلمون تأسيًا وتعبدًا، والمساجد هي منارات للعلم يتعلم فيها الناس القرآن والسنة فإن المجتمع الإسلامي كله أو جله يعلم أساسيات الشرع ويعرف الصواب من الخطأ ولا مكان لطاعة أحدٍ في معصية الله تعالى يقول صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ولا مكان لحاكم أن يجاوز حدوده أو أن يطلب أكثر من حقوقه كائنًا مَن كان.
هنا نجد كيف أن الرجل يعرف حقوقه التي شرعت له وواجه بها أمير المؤمنين، والذي أذعن لها لأن المرجعية للاثنين واضحة لكليهما.
ولهذا فإن المنهج الإسلامي ينفرد بوجود المرجعية التي يحتكم إليها ويحاسب عليها الحاكم والمحكوم، وهذا المنهج متداولٌ للجميع لحسم الخلاف ومنع الانحراف ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: من الآية 10).
ثالثًا: دور العلماء الشرعيين واستقلالهم
أفرد الإسلام للعلماء مكانة خاصة، وجعل لهم فضلاً عظيمًا؛ لأنهم صمام أمان للأمة الإسلامية، يقول صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، والعالم في الإسلام هو العامل بعلمه وليس مَن علم دون عمل، وقد وردت الأحاديث في ذكر عقوبة العالم الذي لا يعمل بعلمه أو يحبس علمه عن الناس يقول صلى الله عليه وسلم: "أول ما تسعر النار على ثلاث منهم عالم.. ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَن كتم علمًا أعطاه الله إياه ألجم بلجام من نار يوم القيامة".
ودور العلماء هو تعليم الناس أمور دينهم وقيادتهم نحو الخير ونصح الأمراء والحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وقد ظل العلماء العاملين محل اجتماع الناس ومهابة الحكام لفترة طويلة من الخلافة الإسلامية.
وقد كان للعلماء دورٌ كبيرٌ في أزمنة عديدة في منع انحراف الحكام وتقويمهم، ولأن للعلماء سلطة أدبية ومكانة اجتماعية, كان الأمراء ينصاعون إليهم، وقد تحدث أحيانًا خلافات حادة بين العلماء والأمراء كانت تنتهي في أغلب الأحيان بانصياع الأمراء لرأي العلماء.
وقد نشأت فئة العلماء منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يلازمه نفر من الصحابة، وينقلون عنه فقد تمايز الصحابة في نبوغهم في العلوم المختلفة فنبغ زيد بن حارثة في علم الفرائض وعبد الله بن عباس في التفسير وأبو هريرة في رواية الحديث وغيرهم، وبدأ تدريس العلم في المسجد النبوي ثم بقية المساجد في سائر الأمصار ونبع في كل جيل مجموعة من العلماء فظهر فقهاء المدينة السبعة والأئمة الأربعة وغيرهم.
وقد كان هؤلاء العلماء يكسبون من كدهم ولا تجري عليهم الأرزاق من قِبل الأمراء وكانوا من عموم الناس يخالطونهم، ويعرفون مشاكلهم؛ ولذلك كانت لهم استقلاليتهم عن الأمراء وقيادتهم الطبيعية للناس، وكان الأمراء يأتون العلماء وليس العكس.
وكان العلماء يستعلون عن عطايا الأمراء فقد ورد أن دخل عطاء بن أبي رياح على هشام بن عبد الملك، فرحب به وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وأُعطياتهم.
فقال: نعم؛ يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال: يا أبا محمد هل من حاجة غيرها؟
فقال: نعم، فذكره بأهل الحجاز وأهل نجد وأهل الثغور، ففعل مثل ذلك، حتى ذكره بأهل الذمة أن لا يكلفوا ما لا يطيقون، فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك: هل من حاجةٍ غيرها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
قال: فأكبَّ هشام يبكي، وقام عطاء. فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما ندري ما فيه، أدراهم أم دنانير؟ وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال عطاء: "ما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجرى إلا على رب العالمين" ثم خرج ولا والله ما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها.
وخطب عبد الملك بن مروان بنت سعيد بن المسيب لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه وزوجها تلميذًا عند يُدعى ابن أبي وداعة، وكان فقيرًا لا مال له.
وقد ظل لهؤلاء العلماء استقلاليتهم لفترة طويلة وقد تميَّز التاريخ الإسلامي بذاك فلم تكن لديه طبقة رجال دين تسير تحت ظل الحكام والأمراء ولم يكن العلماء بمعزلٍ عن الناس يدرسون العلم في كليات اللاهوت، بل كانت مدارسته في المساجد بين الناس بإمكان أي أحد أن يصير عالمًا طالما توافرت فيه شروط طالب العلم.
وقد كان سائر المسلمين يعرفون للعلماء قدرهم ويذهبون إليهم ليرشدوهم ويقومون وراءهم ليؤازروهم، وقد أوقف كثير من المسلمين أموالاً تنفق على طلاب العلم والعلماء ودور العلم؛ مما زاد من استقلالية العلماء عن الحكام.
وهكذا فإن الإسلام شجع المسلمين ليطلبوا العلم، وهذا متاحٌ لكل الناس وليس لفئة دون غيرها ومَن ينبع منهم يصير عالمًا, وهذا العالم ليكون محل قبول من المجتمع لا بد أن يكون عاملاً بعلمه، ثم إن هؤلاء العلماء مستقلون عن الأمراء من ناحية أرزاقهم فهم إما يكتسبون من عملهم الخاص أو يوقف لهم المسلمون أموالاً ليستغنوا بدخلها عن الحكام, ومن ناحية نشأتهم وتكوينهم فهم إفراز مجتمع ورغبات فردية وهم مع الناس ومنهم ليسوا منعزلين عنهم، وبذلك أصبح العلماء في المنهج الإسلامي هم رؤوس المجتمع لهم السلطة الأدبية، والتي توازن السلطة التنفيذية أي أن سلطة العلماء كانت تمنع جور الأمراء إن حدث.
وقد حدث في التاريخ الإسلامي تجاوز من بعض الأمراء والحكام فكان العلماء لهم بالمرصاد، ومن أمثلة ذلك موقف العز بن عبد السلام من أمراء المماليك حينما أرادوا أن يتولوا أمر مصر فأبى عليهم؛ لأنهم عبيد ولا يصح أن يحكم العبد حرًّا فأمر أن يعرضوا في سوق النخاسة وتُقدَّر أثمانهم ويعتق كل واحدٍ منهم نفسه ثم يكون لهم الملك، وتم له ما أراد وسمي لذلك بائع السلاطين، وحينما أراد أحدهم فرض ضرائب على الشعب لتمويل الحرب على الصليبيين أبى، وقال: أنفقوا ما في خزائنكم من أموال فإن لم تكفِ حينها تفرض ضرائب إضافية على الشعب.
وقد تصدى الإمام أحمد بن حنبل للخليفة المأمون حين قال بخلق القرآن وهو معناه إلغاء القرآن كمصدر للتشريع، كما يقول العلمانيون الآن؛ لأنه إذا كان القرآن مخلوقًا فإنه يجري عليه ما يجري على المخلوق من البلى والعدم ثم هو مخلوق فكيف يشرع لمخلوق مثله، ولكن الإمام أحمد ومعه ثلة من العلماء تصدوا لهذا القول حتى عاد الخليفة لرشده وزالت الفتنة، وبقي القرآن حكمًا للناس حتى وقتٍ قريب.
والأمثلة في التاريخ الإسلامي أكثر من أن تحصى، وقد يتساءل أحد فأين دور العلماء الآن والإجابة إنها المؤامرة، إن دور العلماء كان بارزًا واضحًا حتى وقتٍ قريب, وقد قام علماء الأزهر بعزل خورشيد والي مصر وتعيين محمد علي، وأرسلوا بذلك إلى الخليفة العثماني الذي لم يجرؤ على مخالفة العلماء.
وبخبثٍ شديدٍ من محمد علي- الذي خاف دور العلماء- أخذ يُقلِّص دورهم ويدني بعضهم ويعطيهم الرواتب من عنده ثم صودرت أوقافهم بعد ذلك في عهد الثورة وأحيكت المؤامرات بالأزهر- منبع العلماء- وكذلك بالمساجد, حتى تلاشى دور العلماء.
ولكن بدأ صوت بعض علماء الأزهر يعود من جديد وسيعود بإذن الله.
ولأن المنهج الإسلامي لا يجعل العلم قاصرًا على فئةٍ دون أخرى فقد ظهر في الآونة الأخيرة دعاه وعلماء لا يخشون في الله لومة لائم، والأمل معقود على كثيرٍ منهم أن يرفعوا عن الأمة كبوتها ويقودونها نحو الخير بإذن الله تعالى.
رابعًا: استقلال القضاة "استقلال السلطة القضائية"
في العصر الحديث أسس الغربيون دولتهم على مبدأ فصل السلطات الثلاث، السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وقد سبق الإسلام النظم الحديث في استقلالية القضاء وحصانة القضاة فقد كان الخليفة يختار القاضي، ولكنه يمثل أمامه وينصاع لأمره.
وقد ولى عمر بن الخطاب القضاء في عهد أبي بكر، وولى علي بن أبي طالب القضاء في عهد عمر بن الخطاب، وكان الخليفة أو أمير المؤمنين يعين والي على مصر من الأمصار ويعين أيضًا القاضي، كان القضاة هم محل الفصل بين الناس من ناحية وهم أيضًا جهة الفصل حين يكون النزاع بين الأمراء" أي السلطة التنفيذية" وبين الناس, وكانت كلمتهم نافذة وحكمهم نافذ.
ويروى أن عليًّا بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين اتهم يهوديًّا بسرقة درع له واشتكاه إلى شريح القاضي فمثل علي بن أبي طالب واليهودي أمام شريح القاضي، وسأل شريح أمير المؤمنين قائلاً: ألك شاهد فقال: نعم ابني الحسن، فرفض شريح شهادة الحسن قائلاً: إنه ابنك ولا يجوز أن يشهد لك, وهنا قال علي ليس لي شاهد آخر ولكن الدرع درعي فأبى شريح أن يحكم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلب منه إحضار الشهود أولاً، وانصرف علي بن أبي طالب، وانصرف اليهودي ثم قال اليهودي لعلي بن أبي طالب: "الدرع درعك أخذته منك يوم خيبر, وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله".
ويتضح من هذه القصة شموخ القضاء وآداب التقاضي في المنهج الإسلامي، فأمير المؤمنين وهو قمة السلطة التنفيذية لا يستطيع أن يأخذ سارقًا من بيته رغم أن السارق يهودي والمسروق منه هو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين وزوج فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والقاضي يرد شهادة الحسن بن علي حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة؛ لأنه لا يجوز أن يشهد الابن لأبيه.
إن هذه الصورة من التقاضي تمثل استقرار السلطة القضائية واستقلالها وقدرتها في إقامة الحق ولو على الحكام.
وقد حدث صدام بين السلطة التنفيذية والقضاء في بعض فترات التاريخ الإسلامي، ولكن كانت الغلبة للقواعد التي أقرَّها الإسلام وهي خضوع السلطة التنفيذية لأحكام القضاء.
أتت امرأة شريكًا القاضي وهو في مجلس الحكم، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، فقال: إيهًا عنك، الآن مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير عيسى بن موسى، كان لي بستانٌ على شاطئ الفرات، لي فيه نخلٌ، ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطًا، وجعلت فيه رجلاً فارسيًّا في بيتٍ؛ يحفظ لي النخل ويقوم ببستاني، فاشترى الأمير عيسى من إخوتي جميعًا، وسامني فأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث خمسمائة فاعلٍ فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئًا واختلط بنخل إخوتي. قال: يا غلام، طينة. فختم لها خاتمًا، ثم قال لها: امضي به إلى بابه حتى يحضر معك فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل على عيسى، فقال له: أعدى شريكٌ عليك. قال له: ادع لي صاحب الشرطة. فدعا به، فقال: امضِ إلى شريك، فقل له: يا سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح، أعديتها عليَّ؟ فقال: إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل. فقال: امض ويلك.
فخرج، فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراشٍ وغير ذلك من آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريكٍ القاضي، فأدَّى الرسالة، فقال لصاحبه: خذ بيده فضعه في الحبس. قال: قد- والله يا أبا عبد الله- عرفت أنك تفعل بي هذا، فقدمت ما يصلحني إلى الحبس.
قال: وبلغ عيسى بن موسى ذلك فوجه بحاجبه إليه، فقال: هذا من ذاك، رسول أي شيءٍ أنت؟ فأدى الرسالة، فألحقه بصاحبه فحبس.
فلما صلَّى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن صباح الأشعثي وإلى جماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك، فقال: امضوا إليه، وأبلغوه السلام، وأعلموه أنه قد استخفَّ بي، فإني لستُ كالعامَّة.
فمضوا وهو جالسٌ في مسجده بعد العصر، فدخلوا إليه فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم، قال لهم: ما لي لا أراكم جئتم في غيره من الناس؟! من هاهنا من فتيان الحي؟ فابتدروه. فقال: للشرط يأخذ كل واحد منكم بيد رجلٍ من هؤلاء فيذهب به إلى الحبس، لا بتُّم- والله- إلا فيه، قالوا: أجادٌّ أنت؟ قال: حقًّا، حتى لا تعودوا تحملوا رسالة ظالم، فحبسهم.
فركب عيسى بن موسى في الليل إلى باب الحبس ففتح الباب وأخذهم جميعًا، فلما كان من الغد وجلس شريكٌ للقضاء، جاء السجَّان وأخبره، فدعا بالقمطر فختمها ووجه بها إلى منزله، وقال لغلامه: الحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه.
ومضى نحو قنطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه، وجعل يناشده الله، ويقول: يا أبا عبد الله، تثبت، انظر إخوانك تحبسهم؟ دع أعواني.
قال: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم المشي فيه، ولستُ ببارحٍ أو يُرَدُّوا جميعًا إلى الحبس، وإلا مضيت من فوري إلى أمير المؤمنين فاستعفيته فيما قلَّدني.
فأمر بردِّهم جميعًا إلى الحبس، وهو- والله- واقفٌ مكانه حتى جاء السجان، فقال: قد رجعوا إلى الحبس. فقال لأعوانه: خذوا بلجامه قودوه بين يدي إلى مجلس الحكم، فمرُّوا به بين يديه حتى دخل المسجد، وجلس مجلس القضاء، ثم قال أين الجريرية المتظلمة: فجاءت، فقال: هذا خصمك قد حضر، فلما جلس معها بين يديه قال: يخرج أولئك من الحبس قبل كل شيءٍ. ثم قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت. فقال: تردُّ جميع ما أُخِذَ منها إليها، وتبني حائطها في أسرع وقت، كما هُدِمَ. قال: أفعل، ثم سأل المرأة أبقي لك شيء؟ قالت: نعم، وبيت الفارسي ومتاعه. قال: وبيت الفارسي ومتاعه. فقال شريك: أبقي شيءٌ تدعينه عليه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيرًا. قال: قومي، ثم وثب من مجلسه فأخذ بيد عيسى بن موسى فأجلسه في مجلسه، ثم قال: السلام عليك أيها الأمير، تأمر بشيء؟ قال: بأي شيءٍ آمر؟ وضحك!!.
وفي هذه القصة نعلم كيف كان للقضاء هيبتهم ومهابتهم وكيف كانت الدولة الإسلامية هي دولة سيادة القانون بالمصطلح الحديث.
ومما سبق يتضح أن المنهج الإسلامي تميز بوجود استقلالية للسلطة القضائية، والتي هي أحد الضمانات الأساسية لعدم استبداد الحكام أو تغول السلطة التنفيذية وقد سبق الإسلام كل النظم الحديثة في ذلك.
خامسًا: التأثير في المجتمع "تقوية المجتمع المدني" و"تكوين الرأي العام"
في العصر الحديث تعالت صيحات بأهمية المجتمع المدني ويقولون إن التنمية يشترك فيها ثلاثة أطراف؛ هي: القطاع الخاص، والدولة، والمجتمع المدني.
والمجتمع المدني يُعبِّر عن نفسه في صورة جمعيات أو مؤسسسات أو هيئات أو منظمات، وقد تزايدت الحاجة لتقوية هذه التجمعات المدنية لأمرين؛ أولهما: معادلة النفوذ المتزايد للسلطة التنفيذية، وثانيهما معاونة الحكومات في التنمية.
وقد شرع الإسلام تشريعات تعبدية من شأنها تقوية المجتمع المدني بمصطلح العصر الحديث، وهذا التشريع هو بناء المساجد، وصلاة الجماعة، وخطبة الجمعة، وصلاة العيدين، والحج والعمرة، وهي كلها أوقات وأماكن تجمع المسلمين ليتعبَّدوا إلى ربهم ويشهدوا منافع لهم.
وبالنسبة للمساجد هي أماكن تجمع المسلمين للصلاة والتعارف، وهي مكان لتدارس أمور دينهم ودنياهم، وهذه هي رسالة المسجد كما أرادها الإسلام ومارسها الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده.
ولذلك نجد أن الله وضَّح وظيفة المسجد بأنه مصنع الرجال فقد قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)) (النور)، وهذه البيوت هي التي خرجت منها ثورة المصريين ضد الفرنسيين؛ فاضطر نابليون بونابرت لغلق مسجد الأزهر منبع الثورات ومرتكز القوة.
وفي العصر الحديث كانت مساجد فلسطين هي الموطن الذي اندلعت منه الانتفاضة الأولى في فلسطين عام 1987م، والتي استمرت حتى جاءت حكومة حماس في غزة.
ولذلك نجد الحكومات المستبدَّة تحارب المساجد وتسعى إلى خرابها بشتى الصور؛ حتى لا تكون مصانع للرجال الذين يصدقون الله في مقاومتهم للباطل؛ ولذلك يقول تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)) (البقرة).
إن صلاة الجماعة في الإسلام هي فرصةٌ للقاء المسلمين في المسجد؛ لمناقشة أمور دينهم ودنياهم، وتكوين الرأي العام ومناصرة الحق.
وخطبة وصلاة الجمعة هي ملتقى المسلمين لمناقشة أحوالهم، وليست قاصرةً على ذكر الموت وأنواع الشعائر، وموسم الحج والعمرة هو موسم لالتقاء المسلمين من أجناس وأقطار مختلفة؛ لتأكيد الوحدة، وأول هذه الوحدة مناصرة العدل ومقاومة الظلم.
ولتقوية المجتمع المدني أوجد الإسلام نظام (الوقف)، وفيه يوقف الغني أو صاحب المال جزءًا من ماله في نفعٍ عام؛ كبناء المستشفيات أو المدارس أو المساجد أو غيرها.
وقديمًا أوقف المسلمون أوقافًا لبناء المساجد، وأوقافًا للإنفاق على العلماء؛ ما يجعل المساجد خارج دائرة سيطرة السلطة التنفيذية، وتبقى لها قدسيتها ومكانتها، ويبقى للعلماء قيمتهم ومكانتهم، ويظل العلماء هم أئمة الناس في المساجد، بعيدًا عن سيطرة السلطة التنفيذية لمعادلة أثرها إن استبدَّت أو ظلمت.
ولذلك فإن الحرب التي شنَّتها الحكومات المستبدة على المساجد ومصادرة الأوقاف إضعاف العلماء كانت تصبُّ كلها في إضعاف قوة المجتمع المدني؛ حتى تنفرد بالمجتمع أفرادًا لا جماعات؛ لتستطيع بذلك ظلمهم بعد تفريقهم.
ولهذا فإن المنهج الإسلامي يحمل في شعائره وشرائعه عوامل تقوية المجتمع المدني؛ ليكون عونًا للنظم العادلة في تحقيق التنمية، وليكون صمام أمان يمنع استبداد الحكام والأمراء ويأخذ على أيدي الجائرين منهم، وينصح مَن يقبل النصح منهم.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
9:51 ص
مقالات متنوعة
.