12:51 م | كتبت بواسطة قبسات أون لاين
نحمد الله تبارك وتعالى ، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين ، أما بعد : فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته :
أيها الإخوان : هذه الليلة العظيمة الكريمة التي نحن إليها ، ونستأنس بها ، لأنها مجتمع هذه القلوب المتعاونة على طاعة الله ، وابتغاء مرضاته ، ولست أنسى عاطفة بالأمس ، تجلت أمامي وهزت عاطفتي وأثرت في نفسي.
كنت أسير بالأمس مع أخ كريم ، وكنا نتحدث حديثاً عاديًاً عاماً ، وكان من شأن الأخ أن جاء خلال الحديث أننا في يوم الاثنين ، وأن غداً ، فكان حديثاً ساراً لنفسي ، مؤثراً في أعماق قلبي أن بدت على الأخ عاطفة غريبة ، وقال في بساطة ولهجة عادية : إننا نعد لهذه الليلة حتى نلقاها وحتى نلتقي فيها بإخواننا ، ثم قفى على هذا
: والآن أدركت حكمة الإسلام في يوم الجمعة ، وصلاة الجمعة ، وكيف غفل المسلمون عن سر ذلك ، ولو أنهم وجهوا القلوب في يوم الجمعة وصلاة الجمعة لكان شأنهم غير هذا الشأن ، هذه الاجتماعات حين فرضها الإسلام نظر فيها إلى أسمى المقاصد وأشرف الغايات من اجتماع الأرواح ، وائتلاف القلوب المخلصة في يوم الجمعة لصلاة الجمعة ، لكن الناس لم يدركوا من يوم الجمعة إلا أداء فرض الجمعة ، فمن أداه فقط سقط عنه ، ومن لو يؤده فإنه مؤاخذ عليه ، أما ما وراء هذا فقد نسيه المسلمون ، فصار اجتماع الجمعة اجتماعاً آلياً ، يجتمعون بأجسامهم ثم ينصرفون ، وما التقت منهم أرواح ولا ائتلفت قلوب.
أخذ الأخ يسترسل في حديثه ، وكنت أنا في شيء من الغفلة عن كلامه لأنه غمرتني عاطفتان : الأولى الفرح والسرور من أن المسلمين بدؤا يدركون فوائد هذا الاجتماع ، وهو اجتماع القلوب والأرواح ، هذا المعنى سرني وأسعدني وأغفلني عن كلام الأخ.
والعاطفة الثانية : أني خشيت أن يتطاول الزمن وأن تخفى الحكمة عليهم فيفهمون الثلاثاء يوم درس ، وينسون ما دون ذلك من التعاون على مرضاة الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يجمعنا فيها على الحب فيه ، إنه سميع الدعاء.
وبعد أيها الإخوان : أراني مسوقاً إلى التذكير برمضان ، ونحن على أبوابه ، وبما يجب أن نشتغل به فيه ، فهو شهر البركات والرحمات والسرور ، وما أولى الناس أن يقفوا وقفة قصيرة يستعدون للقائه ، وما فيه من خيرات ، فهو الوقت المعظم في الجاهلية ، وقد زاده الإسلام تعظيماً ، جاء الإسلام فشرفه وأكرمه ، وأنزل الله فيه القرآن هدى للناس ، فما أحوجنا أن نهنئ أنفسنا ، ونشعرها بحق رمضان قبل أن نلقاه.
أيها الإخوان : إن الله تبارك وتعالى جعل هذا الشهر معظماً ، فاختصه بمزايا كثيرة ، وجعله مرحلة من مراحل الحياة الثمينة ، ومحطة من محطات السير فيها على النهج القويم، يصرف المسلم فيه أعظم همته إلى الله ، ويتجه فيه بكليته إلى آخرته ، السمو بروحه قبل مادته ، فهو شهر الروحانية وصفاء النفس والمناجاة والإقبال على الله ، والاستمداد من القوي العلي الكبير ، والاتصال بالملأ الأعلى ، وهو شهر له خصوصيته :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وهناك لفت نظر جميل ، ومتعة رائعة جليلة ، تلك هي توصيل هذه الآية بأخرى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
ثم تتلو هذه الآية آية أخرى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } .
تأتي هذه الآية الكريمة خلال أحكام الصيام : {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم }.
ثم : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } .
في استطراد واستحكام يتصل بالصيام ، ثم يأتي الله تعالى بين هذه الأحكام بهذه الآية الكريمة : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. ، معنى جليل هو أن الحق تبارك وتعالى يحثنا على مناجاته والسؤال في وقت تكون النفوس فيه أقرب ما تكون إلى ربها { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ، بإصابة الحق ونيل الرشد.
فشهر رمضان سؤال ومناجاة وهداية ورشاد ليعد الصائم فيه نفسه ، ويبعدها عن خلط المادة ، لترقى بشريتها ، وتتصل بربها.
وقد وردت الأحاديث لتلفت أنظار الناس إلى فضيلة هذا الشهر وعلو مكانته ، وشرف أيامه ، وجزالة التوبة فيه ، مما يهيب بالمسلمين أن يعدوا أنفسهم ويجهزوها لملاقاته ، ويشعروها بأن التجارة فيه رابحة ، والأوقات التي ستجتازها أوقات غالية ، وأن الفرصة فيه سانحة (يا باغي الشر أقصر ، ويا باغي الخير هلم) وليذكروا أنفسهم بقوله صلى الله عليه وسلم :
(ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد).
احرصوا أيها الإخوان على أن لا يمر بكم وقت بغير عمل صالح ، وإذا غفلتهم فاستدركوا ، فقد لقي حنظلة – رضي الله عنه – أبا بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر لقد رأيت حالي في حال المنافقين ، فقال : ولم ؟ قال حنظلة : ألسنا حين نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق أرواحنا وترقى نفوسنا ، فإذا انصرفنا عنه تبدل الحال غير الحال ؟ فقال أبو بكر : هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : (لو كنتم كما عندي لصافحتكم الملائكة ، ولكن ساعة وساعة).
فعلاج الغفلة التذكر والتبصر والاتصال بالله تبارك وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }
فإذا مس الشيطان قلوبنا بمسيس الغفلة ، وفوت علينا من رمضان نصيباً من الخير ، فعلينا أن نجد السير وبنذل الجهد ، ونقبل على الله :
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }.
فليتجهز الإنسان بدوام التوبة والاستغفار ، ومراجعة صفحات الماضي ، فما وجدنا من خير حمدنا الله عليه ، وما وجدنا من شر أقلعنا عنه بالتوبة إليه : (يا باغي الشر أقصر).
وإذا كان صلى الله عليه وسلم يتوب في اليوم مائة مرة ، وهو كما تعلمون قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فما بالكم بمن أحاطته المعاصي من كل جانب ، وانغمس في لذاته وشهواته ، فواجبنا أن نكثر من الاستغفار ونحن على طهر ، ونتوجه إلى الله في إيمان كامل وإخلاص صادق ، طالبين منه تعالى أن يهيئنا للقيام بالأسباب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }.
فالتوبة النصوح ، والتوجه الصادق بالرجوع إلى الله تعالى من أسباب الفوز التام يوم القيامة ، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }. فاجتهدوا من الآن بالتطهر من أدران الذنوب والمعاصي ، فستقابلون شهر رمضان ، وفضل الله فيه واسع منه في غيره ، لتهيئوا نفوسكم لهذا الواجب العظيم ، قال صلى الله عليه وسلم : (من جاءه رمضان ولم يغفر له فيه فلا غفر الله له).
والشقي من حرم فيه رحمه الله عز وجل.
فالواجب تذكر النفس بفضل هذا الشهر ، وإعدادها للعمل فيه ، فقد ندبت إلى أعمال كثيرة وواجبات غالية ، من صيام وصلاة وذكر وتلاوة لكتاب الله ، الذي يطهر النفوس ويحيى القلوب ، قال صلى الله عليه وسلم : (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربي منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال: فيشفعان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويدرسه على جبريل في شهر رمضان مرة ، وقرأه عليه في السنة الأخيرة مرتين ، ودعوتكم دعوة القرآن ، وأنتم تقولون : القرآن دستورنا، فشهر رمضان دعوتكم ، فأكثروا من تلاوة القرآن ، وتدبروا في معانيه ، فإنكم تجدون له حلاوة تتجدد بتجدد تلاوته مهما كنت حافظاً ، وتجدون له تأثيراً عجيباً إذا قرأتموه بإمعان ، ولا تحاولوا أن تفهموه بتعمق وبحث مضن ، بل اقرأوه كما قرأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن قراه على هذا الوجه كان له بكل حرف عشر حسنات ، والله يضاعف لمن يشاء ، ومن استمع إلى آية من كتاب الله كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة.
واعلموا أن هذا الشهر شهر الصدقات والزهادة في المادة ، فأكثروا من مواساة الفقراء والمساكين ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، ثم اجتهدوا أن يكون لكم فيه عمل تلازمون عليه ، واحرصوا على صلاة التراويح ، فنحن نصليها بالقرآن كله ثماني ركعات ، وصلاة التراويح من السنن المؤكدة ، ومن شعائر شهر رمضان ومن مميزاته وخصائصه ، فهي ظرف يتصل فيه قلب المسلم بربه ، وكان صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل في رمضان فيعرض عليه القرآن ، لأن رمضان صيام بالنهار ويناسب أن يكون شهر قيام بالليل ، والقيام تناسبه الصلاة ، والقيام من يحث العدد فثمان ، وهو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعشرون وهو فعل عمر رضي الله عنه ، وست وثلاثون وهو فعل أهل المدينة ، فكل له أصل في السنة ، والغرض منها الاتصال بالله ، وبكتاب الله ، فالسنة فيها الإطالة ، وليس الغرض سرد العدد فحسب كما يفعله كثير من الناس الآن مع الإسراع المخل ، وفاتهم أن النظر في التراويح إنما هو المتعة بكتاب الله وهو السر فيها ، فإذا تعارض الأمران ، فالاقتصار على ثمان مع التطويل خير من العشرين مع التقصير ، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال : (كنا ننصرف من صلاة القيام نستعجل السحارين بالسحور مخافة طلوع الفجر) فكانوا يقرأون بالبقرة كلها ، وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام والقراءة ليستمتعوا بكتاب الله ، فالمطلوب في هذه الصلاة ملاحظة ورح التشريع فيها ، والإحسان في الأداء ، وانتهاز فرصة الاستماع.
أما الطقوس التي يفعلها بعضهم من التشويش في المساجد كصلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع ، وإعلانهم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره ، وقراءتهم للقرآن بالهيئة المعروفة ، فليس ذلك من الدين في شيء ، والواجب على المرشد إزاء هذه الحالة أن يتلطف في دعوته ، ويستعمل الحكمة في إرشاده من غير عنف ولا شدة : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة }.
فإن كنا أهل القوة نلزمهم قهراً وإلا تلطفا : { وما على الرسول إلا البلغ المبين }.
والمسؤول أمام هذه الحالة إنما هو وزارة الأوقاف والأزهر الشريف ، ولا داعي لإيجاد النزاع بين المسلم وأخيه المسلم ، فإن المحافظة على الوحدة واجبة وصلاة التراويح سنة ، والحرص على الواجب أولى من الحرص على السنة ، وعلى الدعاة المرشدين أن يوجهوا أنظار أولي الأمر منهم إلى إصلاح هذه الحالة بالحكمة ، وحافظوا دائماً على الأكل والأحسن.
ثم إنكم في رمضان ترقبون ليالي كريمة ، يفيض فيها الخير فيضاً ، فليلة يوم السابع عشر ، يوم الذكرى الجليلة التي اجتمع فيها النصر النظري والنصر العلمي في غزوة بدر ، يوم التقت الفئتان : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } .
وليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان ، بل العشر هي من ليالي التجلي ، فروضوا فيها أنفسكم ، وجردوها من علائق الدنيا ، وأقبلوا على الله بالصلاة والمناجاة والإلحاح في الدعاء ، فإن الله يحب الملحين في الدعاء ، ومن كان في فراغ فليعتكف فيها ولا يخرج إلا لحاجة ملحة ، فهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أخذ بها الصالحون ، أم المشغول فلا أقل من أن يعتكف فيها بالليل ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل العشر الأواخر من رمضان شمر المتزر ، وقام الليل ، وأيقظ أهله.
واعملوا أن الصلة في رمضان مطلوبة في طاعة الله لا في اللهو واللعب ، ولكن الناس عكسوا ، فجعلوه شهر غفلة ولهو ولعب ، فمنهم حجرة يتلو فيها كتاب الله ثم يهجرونه إلى حجرة أخرى يتكلمون فيها بما يشاؤون ويشتهون ، معرضين عن السماع والتدبر.
مرّ ابن مسعود رضي الله عنه على جماعة خرجوا إلى عرض الطريق فقال لهم : أصحاب محمد كانوا يتزاورون في الله ، فقالوا : ما أخرجنا من بيوتنا إلا التزاور في الله ، فقال لهم : أبشروا ، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزالون بخير ما تزاورتم) فعليكم معشر الإخوان أن تجعلوا هذا الشهر موسم عبادة تتقربون فيه إلى الله وأن تنهجوا فيه نهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
|
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
12:51 م
مقالات متنوعة
.