علاقة الدين بالسياسة بقلم / الدكتور عبد الرحمن سالم
قد يتسائل البعض : ما شأن الإسلام بالسياسة ؟ إن السياسة التى تهتم فى الأساس بإدارة شئون الناس فى مجتمع ما ورعاية مصالحهم تبدو فى ظاهرها أمرا من أمور الدنيا لا يتصور أن يشغل الإنسان نفسه به ، وهذه قضية من القضايا التى يتجدد النقاش فيها وتصطرع حولها الآراء ويكتنف بعض جولنبها أحيانا قدر غير قليل من عدم الوضوح الذى ينشأ عنه اتخاذ هذا الطرف أو ذاك موقفا يتسم بالتطرف والمغالاة .
والحق أن هؤلاء الذين ينكرون صلة الإسلام بالسياسة ينطلقون من مقولة باطلة أساسا ووهى أن الإسلام مجموعة من العبادات بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة ؛ أى أنه مجموعة من الطقوس يؤديها المسلم وكفى . وما أبعد هذا عن الحقيقة ! فمن أبجديات الفكر الإسلامى أن الإسلام نظام شامل للحياة ، وليس من المتصور فى مثل هذا النظام الشامل أن يترك شئون السياسة ـ على أهميتها ـ دون ان يرسم لها الإطار العريض ويضع لها المبادئ الموجهة ، أما التفاصيل والجزئيات فهى متروكة للناس يحددونها فى ضوء ظروف المكان والزمان دون أن يخرجوا بها عن هذا الإطار العريض ، أى دون أن ينحرفوا بها عن جوهر الإسلام وروحه .
علاقة الإسلام بالسياسة ـ إذن ـ أمر ثابت لا مجال لإنكاره . وفى القرآن الكريم والسنة النبوية من النصوص المتعددة ما يقدم برهانا واضحا على ذلك . ثم إن التاريخ الواقعى للمسلمين فى صدر الإسلام ـ أى فى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام وعصر الخلفاء الراشدين ـ يقدم برهانا آخر عمليا على أن السياسة لا يمكن أن تنسلخ عن المجال العريض للإسلام .
ولا مجال هنا لتقصى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التى أرست قواعد العديد من المبادئ السياسية الكبرى فى الإسلام .
فقد تحدث القرآن والسنة عن مبدأ الشورى ومبدأ الطاعة لأولى الأمر ، ومبدأ العدل والمساواة والحرية والأخوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .... وغير ذلك ، فكل هذه مبادىء أساسية لقيام الحكم الصحيح .
فإذا جئنا إلى التاريخ العملى للدولة الإسلامية فى عصرها الأول لنلتمس فيه برهانا على ارتباط الإسلام بالسياسة وجدنا ذلك البرهان واضحا أمامنا غاية الوضوح .
فمنذ بيعة العقبة الثانية فى ذى الحجة من العام الثالث عشر للبعثة بدأت نواة الدولة الإسلامية تتكون فى يثرب ( المدوينة المنورة ) . فقد عاهد أصحاب هذه البيعة من الأوس والخزرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يمنعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم ؛ أو على حد قول البراء بن معرور ـ أحد شهود هذه البيعة ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( والذى بعثك بالحق ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (أى نسائنا ) ؛ فبايعنا يارسول الله ، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة (أى السلاح ) ورثناها كابرا عن كابر ) . فقد كانت هذه البيعة ـ إذن ـ بيعة على النصرة التامة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولدينه ، ومن هنا ذهب أهل يثرب بذلك اللقب الخالد فى التاريخ ( الأنصار ) ، ومن هنا أيضا كانت هذه البيعة مقدمة حقيقية لهجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة .
وقد تحققت بالهجرة المباركة كل العناصر اللازمة لتكوين الدولة كما يقررها علماء الفقه الدستورى من الشعب والأرض والقيادة . ذلك أن مجتمع المدينة ـ وهو الذى تكون فى معظمه من المهاجرين والأنصار ـ كان مجتمعا يتمتع بأغلبية مسلمة وله أرضه المحددة المعالم وله قيادته المتمثلة فى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولكن هذا المجتمع ذا الأغلبية المسلمة كان يضم بين صفوفه قبائل اليهود المعروفة من بنى قينقاع وبنى قريظة وبنى النضير ، فضلا عن بقايا الوثنيين .
وقد كان من بين أهم ما بدأ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته فى المدينة أن كتب كتابا نظم فيه العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى مجتمع المدينة ، وأشار إلى هؤلاء جميعا بأنهم (أهل هذه الصحيفة ). وتعد هذه الصحيفة بمثابة دستور الدولة الإسلامية الناشئة فى المدينة . ومن هنا يطلق الكثير من الباحثين المحدثين على هذه الصحيفة ـ بحق ـ مصطلح ( دستور المدينة ) أو ( ميثاق المدينة ) .
وقد كفلت هذه الصحيفة لليهود حرية الدين والعبادة وأمنتهم على أنفسهم وأموالهم ، كما أعلنت أن اليهود ( ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ) ، (وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ) ، أى حارب أهل المدينة . وقد حدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضا فى هذه الصحيفة وضع غير المسلمين من عرب المدينة فجعل عليهم ألا يجيروا مشركى قريش ولا أموالهمولا من ناصرهم . ثم أصدر عليه السلام حكما عاما يشمل أهل الصحيفة ، أى جميع أهل المدينة ، وذلك حين قال : ( إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ) فالواضح أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصبح ـ بمقتدى هذه الصحيفة ـ الرئيس الاعلى للمدينة بجانب قيادته الروحية للمجتمع الإسلامى فيها . فلا وجه إذا لم يزعمه ( مونتجومرى وات ) من أن هذه الصحيفة لم تجعل من محمد رئيسا لمجتمع المدينة بل زعيما لجماعة المهاجرين .
ويمكن القول بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مارس فى المدينة مسئوليات القيادة الزمنية أو الدنيوية بالإضافة إلى ما يمكن أن نطلق عليه تجوزا (شئون القيادة الدينية)، وإن كان الفصل بين شئون الدين والدنيا من وجهة النظر الإسلامية أمرا لا يخلو من تعسف . والثابت على أى حال أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تولى مسئوليات رئيس الدولة بالمفهوم الحديث ؛ فقد نظم شئون الحرب والسلم ، وعقد المعاهدات ، وجبى الأموال من مصادرها وأنفقها فى وجوهها ، وأقام الحدود والأحكام ، وفصل فى المنازعات واستقبل السفارات ، وعين الولاة والقضاة .... وباختصار : أشرف على إدارة شئون هذا المجتمع الإسلامى الناشئ فى المدينة بما يحقق له مصالحه على أفضل الوجوه .
وبعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لابد لهذه الدولة الإسلامية التى أقامها من قائد يتولى أمورها ويدبر مصالحها فى ضوء مفاهيم الإسلام ومبادئه .
وهكذا أجمع المسلمون على ضرورة اختيار من يخلف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه المهمة الجليلة وهى مهمة رئاسة الدولة الإسلامية ؛ فكان اختيار أبى بكر م عمر ثم عثمان ثم على بالصورة التى فصلتها كتب التاريخ . ومارس هؤلاء جميعا مهام قائد الدولة بالمفهوم السياسى الكامل لهذه الكلمة . وقد واجهتهم أمور لم تكن موجودة فى عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان علاجهم لها مستمدا من مبادئ الإسلام العريضة التى تهتم بالأساسيات وتترك التفاصيل لظروف الزمان والمكان .
هكذا يتبين أن شئون السياسة لم تكن غريبة على الإسلام بل هى مندرجة فى إطاره العريض ؛ فقد قدم القرآن والسنة المبادئ الأساسية والأصول الكبرى فى هذا المجال ، ثم جاء التطبيق العملى لهذه المبادئ والأصول فى عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعصر خلفائه الراشدين ليقدم دليلا حاسما على أن السياسة لم تنفك عن الإسلام نظرا وتطبيقا .
وجهة نظر معارضة :
لم تكن علاقة الإسلام بالسياسة محل جدل أو مناقشة بين جماهير المسلمين بل كانت أمرا مسلما به حتى خرج الشيخ على عبد الرازق على العالم الإسلامى بمؤلفه المشهور :(الإسلام وأصول الحكم ). والشيخ على عبد الرازق تخرج فى الأزهر واشتغل بالقضاء الشرعى وتولى وزارة الأوقاف فى بعض مراحل حياته . وكانت وفاته فى سبتمبر سنة 1966م. وقد نشر على عبد الرازق كتابه المشار إليه فى أبريل سنة 1925م . فأحد به ـ على صغر حجمه ـ دويا هائلا ما زالت تتردد أصداؤه إلى اليوم .
والفكرة المركزية التى يدور حولها الكتاب هى أن الخلافة دخيلة على الإسلام ؛ فهى مصدر قهر واستبداد ، وقد كانت منذ نشأتها حتى عهد المؤلف نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد . ويقدم المؤلف فى ثنايا هذه الفكرة الرئيسية بعض أفكار أخرى أهمها أن الإسلام دين خالص وعلاقة بين العبد وربه ؛ ولهذا فلا صلة له بشئون السياسة وأمور الدولة . وهو يستند فى ذلك إلى ( أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين ى لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة ) . ومما يقوله أيضا فى هذا المجال : ( ولاية الرسول على قومه ولاية روحية منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعا صادقا يتبعه الجسم ؛ وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد على إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلوب اتصال . تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه ، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض . تلك للدين وهذه للدنيا . تلك لله وهذه للناس . تلك زعامة دينية وهذه زعامة سياسية . ويا بُعد ما بين السياسة والدين !) .
ولابد هنا من إشارة سريعة إلى الظروف التى ظهر فيها هذا الكتاب حتى يمكن فهمه فى إطاره التاريخى . فقد سقطت الخلافة العثمانية فى مارس سنة 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك . والجدير بالذكر أن أتاتورك كان قد حقق سمعة عسكرية عالية بالانتصارات التى أحرزها فى الحرب التركية فى البلقان ، ومن هنا أطلق عليه أمير الشعراء أحمد شوقى لقب (خالد الترك) مشبها إياه بخالد ابن الوليد ـ رضى الله عنه ـ أو خالد العرب وذلك فى قوله :
الله أكبر!كم فى الفتح من عجب ! ياخالد الترك جدد خالد العرب
وفى غمرة النشوة بالانتصارات التركية ألغى (أتاتورك) الخلافة فأحدث بذلك صدمة هائلة فى نفوس المسلمين . فقد كانت الخلافة العثمانية ـ رغم ما حل بها من تدهور فى مراحلها الأخيرة ـ تمل فى نظر قطاعات كبيرة من المسلمين الرمز الذى يعبر عن الوحدة الإسلامية . وقد عبر شوقى خير تعبير عن مشاعر المسلمين إزاء سقوط الخلافة فى قصيدة له بعنوان (خلافة الإسلام ) يقول فى مطلعها :
علاقة الإسلام بالسياسة ـ إذن ـ أمر ثابت لا مجال لإنكاره . وفى القرآن الكريم والسنة النبوية من النصوص المتعددة ما يقدم برهانا واضحا على ذلك . ثم إن التاريخ الواقعى للمسلمين فى صدر الإسلام ـ أى فى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام وعصر الخلفاء الراشدين ـ يقدم برهانا آخر عمليا على أن السياسة لا يمكن أن تنسلخ عن المجال العريض للإسلام .
ولا مجال هنا لتقصى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التى أرست قواعد العديد من المبادئ السياسية الكبرى فى الإسلام .
فقد تحدث القرآن والسنة عن مبدأ الشورى ومبدأ الطاعة لأولى الأمر ، ومبدأ العدل والمساواة والحرية والأخوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .... وغير ذلك ، فكل هذه مبادىء أساسية لقيام الحكم الصحيح .
فإذا جئنا إلى التاريخ العملى للدولة الإسلامية فى عصرها الأول لنلتمس فيه برهانا على ارتباط الإسلام بالسياسة وجدنا ذلك البرهان واضحا أمامنا غاية الوضوح .
فمنذ بيعة العقبة الثانية فى ذى الحجة من العام الثالث عشر للبعثة بدأت نواة الدولة الإسلامية تتكون فى يثرب ( المدوينة المنورة ) . فقد عاهد أصحاب هذه البيعة من الأوس والخزرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يمنعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم ؛ أو على حد قول البراء بن معرور ـ أحد شهود هذه البيعة ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( والذى بعثك بالحق ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (أى نسائنا ) ؛ فبايعنا يارسول الله ، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة (أى السلاح ) ورثناها كابرا عن كابر ) . فقد كانت هذه البيعة ـ إذن ـ بيعة على النصرة التامة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولدينه ، ومن هنا ذهب أهل يثرب بذلك اللقب الخالد فى التاريخ ( الأنصار ) ، ومن هنا أيضا كانت هذه البيعة مقدمة حقيقية لهجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة .
وقد تحققت بالهجرة المباركة كل العناصر اللازمة لتكوين الدولة كما يقررها علماء الفقه الدستورى من الشعب والأرض والقيادة . ذلك أن مجتمع المدينة ـ وهو الذى تكون فى معظمه من المهاجرين والأنصار ـ كان مجتمعا يتمتع بأغلبية مسلمة وله أرضه المحددة المعالم وله قيادته المتمثلة فى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولكن هذا المجتمع ذا الأغلبية المسلمة كان يضم بين صفوفه قبائل اليهود المعروفة من بنى قينقاع وبنى قريظة وبنى النضير ، فضلا عن بقايا الوثنيين .
وقد كان من بين أهم ما بدأ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته فى المدينة أن كتب كتابا نظم فيه العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى مجتمع المدينة ، وأشار إلى هؤلاء جميعا بأنهم (أهل هذه الصحيفة ). وتعد هذه الصحيفة بمثابة دستور الدولة الإسلامية الناشئة فى المدينة . ومن هنا يطلق الكثير من الباحثين المحدثين على هذه الصحيفة ـ بحق ـ مصطلح ( دستور المدينة ) أو ( ميثاق المدينة ) .
وقد كفلت هذه الصحيفة لليهود حرية الدين والعبادة وأمنتهم على أنفسهم وأموالهم ، كما أعلنت أن اليهود ( ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ) ، (وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ) ، أى حارب أهل المدينة . وقد حدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضا فى هذه الصحيفة وضع غير المسلمين من عرب المدينة فجعل عليهم ألا يجيروا مشركى قريش ولا أموالهمولا من ناصرهم . ثم أصدر عليه السلام حكما عاما يشمل أهل الصحيفة ، أى جميع أهل المدينة ، وذلك حين قال : ( إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ) فالواضح أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصبح ـ بمقتدى هذه الصحيفة ـ الرئيس الاعلى للمدينة بجانب قيادته الروحية للمجتمع الإسلامى فيها . فلا وجه إذا لم يزعمه ( مونتجومرى وات ) من أن هذه الصحيفة لم تجعل من محمد رئيسا لمجتمع المدينة بل زعيما لجماعة المهاجرين .
ويمكن القول بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مارس فى المدينة مسئوليات القيادة الزمنية أو الدنيوية بالإضافة إلى ما يمكن أن نطلق عليه تجوزا (شئون القيادة الدينية)، وإن كان الفصل بين شئون الدين والدنيا من وجهة النظر الإسلامية أمرا لا يخلو من تعسف . والثابت على أى حال أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تولى مسئوليات رئيس الدولة بالمفهوم الحديث ؛ فقد نظم شئون الحرب والسلم ، وعقد المعاهدات ، وجبى الأموال من مصادرها وأنفقها فى وجوهها ، وأقام الحدود والأحكام ، وفصل فى المنازعات واستقبل السفارات ، وعين الولاة والقضاة .... وباختصار : أشرف على إدارة شئون هذا المجتمع الإسلامى الناشئ فى المدينة بما يحقق له مصالحه على أفضل الوجوه .
وبعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لابد لهذه الدولة الإسلامية التى أقامها من قائد يتولى أمورها ويدبر مصالحها فى ضوء مفاهيم الإسلام ومبادئه .
وهكذا أجمع المسلمون على ضرورة اختيار من يخلف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذه المهمة الجليلة وهى مهمة رئاسة الدولة الإسلامية ؛ فكان اختيار أبى بكر م عمر ثم عثمان ثم على بالصورة التى فصلتها كتب التاريخ . ومارس هؤلاء جميعا مهام قائد الدولة بالمفهوم السياسى الكامل لهذه الكلمة . وقد واجهتهم أمور لم تكن موجودة فى عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان علاجهم لها مستمدا من مبادئ الإسلام العريضة التى تهتم بالأساسيات وتترك التفاصيل لظروف الزمان والمكان .
هكذا يتبين أن شئون السياسة لم تكن غريبة على الإسلام بل هى مندرجة فى إطاره العريض ؛ فقد قدم القرآن والسنة المبادئ الأساسية والأصول الكبرى فى هذا المجال ، ثم جاء التطبيق العملى لهذه المبادئ والأصول فى عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعصر خلفائه الراشدين ليقدم دليلا حاسما على أن السياسة لم تنفك عن الإسلام نظرا وتطبيقا .
وجهة نظر معارضة :
لم تكن علاقة الإسلام بالسياسة محل جدل أو مناقشة بين جماهير المسلمين بل كانت أمرا مسلما به حتى خرج الشيخ على عبد الرازق على العالم الإسلامى بمؤلفه المشهور :(الإسلام وأصول الحكم ). والشيخ على عبد الرازق تخرج فى الأزهر واشتغل بالقضاء الشرعى وتولى وزارة الأوقاف فى بعض مراحل حياته . وكانت وفاته فى سبتمبر سنة 1966م. وقد نشر على عبد الرازق كتابه المشار إليه فى أبريل سنة 1925م . فأحد به ـ على صغر حجمه ـ دويا هائلا ما زالت تتردد أصداؤه إلى اليوم .
والفكرة المركزية التى يدور حولها الكتاب هى أن الخلافة دخيلة على الإسلام ؛ فهى مصدر قهر واستبداد ، وقد كانت منذ نشأتها حتى عهد المؤلف نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد . ويقدم المؤلف فى ثنايا هذه الفكرة الرئيسية بعض أفكار أخرى أهمها أن الإسلام دين خالص وعلاقة بين العبد وربه ؛ ولهذا فلا صلة له بشئون السياسة وأمور الدولة . وهو يستند فى ذلك إلى ( أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين ى لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة ) . ومما يقوله أيضا فى هذا المجال : ( ولاية الرسول على قومه ولاية روحية منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعا صادقا يتبعه الجسم ؛ وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد على إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلوب اتصال . تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه ، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض . تلك للدين وهذه للدنيا . تلك لله وهذه للناس . تلك زعامة دينية وهذه زعامة سياسية . ويا بُعد ما بين السياسة والدين !) .
ولابد هنا من إشارة سريعة إلى الظروف التى ظهر فيها هذا الكتاب حتى يمكن فهمه فى إطاره التاريخى . فقد سقطت الخلافة العثمانية فى مارس سنة 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك . والجدير بالذكر أن أتاتورك كان قد حقق سمعة عسكرية عالية بالانتصارات التى أحرزها فى الحرب التركية فى البلقان ، ومن هنا أطلق عليه أمير الشعراء أحمد شوقى لقب (خالد الترك) مشبها إياه بخالد ابن الوليد ـ رضى الله عنه ـ أو خالد العرب وذلك فى قوله :
الله أكبر!كم فى الفتح من عجب ! ياخالد الترك جدد خالد العرب
وفى غمرة النشوة بالانتصارات التركية ألغى (أتاتورك) الخلافة فأحدث بذلك صدمة هائلة فى نفوس المسلمين . فقد كانت الخلافة العثمانية ـ رغم ما حل بها من تدهور فى مراحلها الأخيرة ـ تمل فى نظر قطاعات كبيرة من المسلمين الرمز الذى يعبر عن الوحدة الإسلامية . وقد عبر شوقى خير تعبير عن مشاعر المسلمين إزاء سقوط الخلافة فى قصيدة له بعنوان (خلافة الإسلام ) يقول فى مطلعها :
عادت أغنى العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
ومما جاء فيها قوله :
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكى عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح ؟!
ياللرجال لحرة موءودة قتلت بغير جريرة وجناح
كان طبيعيا ـ إذن ـ أن يتطلع الكيرون من المسلمين إلى إحياءالخلافة فى مكان أو آخر من العالم الإسلامى بعد أن سقطت تركيا . وقد كانت مصر على رأس الأماكن التى اتجهت إليها تطلعات الكثيرين . وتكون اتجاه قوى داخل مصر يتبنى هذه الفكرة ويدافع عنها . واتجهت الأنظار إلى الملك فؤاد ملك مصر ليكون خليفة المستقبل . وعقدت المؤتمرات فى مصر للترويج لهذا المشروع . وفى تلك الظروف صدر كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) ليعلن ما سبق أن ذكرناه من أن الخلافة ليست من الإسلام فى شئ ، وأنها كانت منذ نشأتها ينبوع شر وفساد ، وأن الإسلام لا صلة له بشئون الحكم ومسائل السياسة . فليس من المستغرب ـ إذن ـ أن تثير هذه الآراء ردود فعل واسعة على المستويين السياسى والفكرى معا . ولسنا هنا فى مقام يسمح لنا بالدخول فى تفاصيل ردود الفعل السياسية التى ارتبطت بظهور هذا الكتاب . أما ردود الفعل على المستوى الفكرى فقد كانت أكثر حدة وتنوعا ، ومازالت مستمرة حتى الآن ؛ وقد ظهر ذلك واضحا فى المقالات والكتب التى ألفت حول هذا الكتاب ، إما نقضا له , أو دفاعا عنه .
ولا يعنينا هنا أن نتناول بالمناقشة التفصيلية آراء على عبد الرازق وما كُتب تأييدا له وهجوما عليه ؛ ولكن نكتفى بأن نؤكد ما سبق أن قررناه من أن الإسلام يقدم نظاما متكاملا لحياة البشر فى كل زمان ومكان . وهذا النظام بطبيعته يهتم بالأساسيات التى تشكل الإطار العريض ويترك التفصيلات لاختيار الناس فى ضوء الظروف المتغيرة حتى يتوفر عنصر المرونة لهذا النظام ، ويمكن تطبيقه فى البيئات المختلفة والأزمنة المختلفة . ولو أن الإسلام قدم التفاصيل الدقيقة لكل شىء لحكم على نفسه بالجمود ووقف عقبة فى سبيل التطور ؛ (فهذا الذى يظن أنه نقص ) ـ كما يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف ـ (هو غاية الكمال فى نظام التقنين الذى يتقبل مصالح الناس كافة ولا يحول دون أى إصلاح ) .
فالقرآن لم يقدم بحثا تفصيليا عن الخلافة ، وما كان ينبغى له أن يفعل .وكذلك السنة . ولكن القرآن والسنة ـ كما سبق القول ـ تحدثا عن ولاية الأمر وعن وجوب الطاعة لأولى الأمر ما أطاعوا الله والرسول ، وعن الشورى والعدل فى الحكم والإخاء والمساواة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكلمة الحق تقال فى وجه سلطان جائر وغير ذلك مما يقدم الركائز الأساسية للفكر السياسى والنظام السياسى . فليس من الصواب ـ إذن ـ أن نقول إن الخلافة دخيلة على الإسلام ؛ فالخلافة هى ولاية أمر المسلمين ، وهذا أمر ثابت فى القرآن والسنة ، وثابت أيضا بإجماع المسلمين على ضرورة من يتولى أمر المسلمين بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويبدو أن كلمة الخلافة تير مخاوف البعض وتقدم التفسير وراء الحملة الضروس التى يتعرض لها نظام الحكم فى الإسلام . ولكن القضية هنا ليست قضية أسماء ؛ فلا قداسة فى الأسماء . فالخلافة يمكن أن تسمى ولاية أو إمارة أوإمامة أو رئاسة أو حكما، ويبقى الجوهر واحدا وهو قيام من يتولى أمر المسلمين ويدبر مصالحهم فى ضوء المبادئ العريضة التى أرساها القرآن والسنة ، فما الخلاف ة إلا شكل من أشكال الحكم فى الإسلام وليست هى شكله الوحيد ، كما يقول د. عبد الحميد متولى .
صحيح أن الخلافة التاريخية انحرلافت فى بعض مراحلها عن مسارها الإسلامى الصحيح فأصبحت حكما وراثيا وشابتها نزعة الاستبداد تتفاوت حدة وضعفا ولعل هذا هو ما حدا الشيخ على عبد الرازق ومن صار على نهجه إلى اتخاذ هذا الموقف المتشدد من قضية الخلافة أو الحكم فى الإسلام . ولكن انحراف الخلافة عن مسارها أمر مقرر تحدث عنها المفكرون المسلمون وناقشه ابن خلدون فى مقدمته حين تناول بالشرح كيف انتقلت الخلافة إلى ملك . ولكن هذا لم يدفع أحدا إلى محاولة هدم فكرة الخلافة أو الحكم الإسلامى من الأساس ؛ فالمعروف أن الانحراف عن المبادئ الصحيحة لا يدين المبادئ ذاتها بقدر ما يدين العابثين بها .
يبقى بعد ذلك ما يذكره الأستاذ على عبد الرازق من أن محمدا عليه السلام ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك . ونحن نجد ترديدا لمثل هذا القول فى بعض الكتابات المعاصرة ؛ فيقول أحد الباحثين مثلا : ( لا نعتقد أن محمدا جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة ، فما كان إلا نبيا ورسولا إلى الناس كافة بدعوة كانت ختام رسالات السماء ) . ويقول باحث آخر : ( لم يذكر القرآن الكريم عن النبى إلا أنه رسول ووظيفته الدعوة إلى الله وهداية الناس ، أى بناء المجتمع وليس حكم الناس كما يفعل الملوك ) . ويذكر باحث ثالث أن الرسول ( لم يقصد إلى سيادة ولم يهدف إلى سلطان ولم يرْنُ إلى ملك ) .
لا حاجة بنا القول أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة وإن رسالته كانت دعوة دينية لم تشبها نزعة ملك ....هذه مسلمات .
ولكن الذى قد نحتاجه إلى توضيحه هنا هو أن الدولة الإسلامية تتكون نتيجة طبيعية لوجود المجتمع المسلم فى أرض له فيها السيادة . فلابد للمجتمع المسلم فى هذه الحالة من أن يقيم لنفسه سلطة أو حكومة ترعى شئونه وتدبر مصالحه . وليس من المتصور أن يستعير هذا المجتمع لحكومته نظريات غريبة على روح الإسلام واتجاهه ؛ فلابد إذن من أن تدير هذه الحكومة شئون المجتمع فى ضوء المبادئ الأساسية التى أرساها الإسلام . وهكذا تنشأ الالدولة الإسلامية حين تتكامل أركانها من شعب وأرض وحكومة . وهذا ـ بتبسيط شديبد ـ ما تعنيه العبارة الشائعة التى قد يساء فهمها كثيرا وهى أن الإسلام دين ودولة . فهذه عبارة لا تعنى على الإطلاق أن الدولة جزء من العقيدة الإسلامية بحيث لا يصح إسلام المرء إلا بإقامتها ؛ فقد بنى الإسلام على خمسة أركان معروفة ، وليس من بينها الاعتقاد فى وجوب تكوين دولة إسلامية . وقد يوجد ىالمسلم فى أرض لا ينتمى شعبها ولا حكومتها للإسلام ، وهو مع ذلك مسلم صحيح الإسلام ما دام يمارس شعائر دينه ويلتزم بمبادئه . كل ما تعنيه العبارة السابقة ـ إذن ـ هو أن المسلمين إذا كانت لهم السيادة وجب عليهم إقامة حكومة تدير شئونهم فى توافق واتساق مع المبادئ العريضة للإسلام . فليس من المقبول أن تسير حكومة الشعب المسلم فى اتجاه معاكس للإسلام رافعة شعار الفصل بين الدين والدولة ؛ لأنه لا فصل بين الدين والدولة بهذا المفهوم ، مع الموافقة التامة على أن الرسول ما جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة .
قد ينزعج البعض من فكرة الربط بين الدين والدولة فى الإسلام فيدمغون الحكومة الإسلامية بأنها حكومة ثيوقراطية ، أى حكومة رجال الدين ، وأحيانا يصفونها بأنها حكومة دينية ، أى تدبر أمر دولة دينية ( فى مقابل الدولة المدنية ) .
ونود أن نؤكد على أن الدولة بمفهومها الإسلامى الصحيح هى أبعد ما تكون عن الجمود ، والحكومة فيها تستلهم مبادئ الإسلام الأساسية غير المتغيرة ، وهى قد قامت باختيار المجتمع المسلم ، ومن حق هذا المجتمع أن يسحب منها الثقة ويسقطها فى حالة انحرافها عن مسارها الصحيح .
وهكذا لا تتعدى فكرة الربط بين الدين والدولة مفهوم أن يسير الحكم فى ضوء المبادئ الأساسية الراسخة للإسلام ثم يتمتع نظام الحكم بعد ذلك بخاصية التطور والتكيف مع الظروف المحيطة . ولهذا نجد أنفسنا على اتفاق تام مع ما يقرره المفكر الإسلامى (محمد أسد ) بهذا الصدد إذ يقول : ( يمكننا أن نقرر باطمئنان أنه لا يوجد شكل واحد للدولة الإسلامية ، بل إن هناك أشكالا كثيرة وإن على المسلمين فى كل زمن أن يكتشفوا الشكل الذى يلائم ويحقق حاجاتهم شريطة أن يكون الشكل والنظام اللذان يقع عليهما الاختيار متفقين تماما مع الأحكام الشرعية الظاهرة المتعلقة بتنظيم حياة المجتمع ) . ولكننا لا نستطيع أن نقبل بسهولة ما يذكره الشيخ على عبد الرازق من أن إقامة الشعائر الدينية فى الإسلام ، وصلاح الرعية ، يتوقفان على الحكومة (فى أى صورة كانت الحكومة ، ومن أى نوع : مطلقة أو مقيدة ، فردية أو جمهورية ، استبدادية أو دستورية أو شورية ، ديموقراطية أو اشتراكية أو بلشيفية ) ؛ إذ كيف يمكننا أن نتصور صلاحا لحال الرعية أو إقامة لشعائر الإسلام على يد حكومة بلشفية مثلا ـ كحكومات الجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد السوفيتى السابق ـ لا هم لها إلا نسف الإسلام من قواعده ؟!!.
ولا يعنينا هنا أن نتناول بالمناقشة التفصيلية آراء على عبد الرازق وما كُتب تأييدا له وهجوما عليه ؛ ولكن نكتفى بأن نؤكد ما سبق أن قررناه من أن الإسلام يقدم نظاما متكاملا لحياة البشر فى كل زمان ومكان . وهذا النظام بطبيعته يهتم بالأساسيات التى تشكل الإطار العريض ويترك التفصيلات لاختيار الناس فى ضوء الظروف المتغيرة حتى يتوفر عنصر المرونة لهذا النظام ، ويمكن تطبيقه فى البيئات المختلفة والأزمنة المختلفة . ولو أن الإسلام قدم التفاصيل الدقيقة لكل شىء لحكم على نفسه بالجمود ووقف عقبة فى سبيل التطور ؛ (فهذا الذى يظن أنه نقص ) ـ كما يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف ـ (هو غاية الكمال فى نظام التقنين الذى يتقبل مصالح الناس كافة ولا يحول دون أى إصلاح ) .
فالقرآن لم يقدم بحثا تفصيليا عن الخلافة ، وما كان ينبغى له أن يفعل .وكذلك السنة . ولكن القرآن والسنة ـ كما سبق القول ـ تحدثا عن ولاية الأمر وعن وجوب الطاعة لأولى الأمر ما أطاعوا الله والرسول ، وعن الشورى والعدل فى الحكم والإخاء والمساواة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكلمة الحق تقال فى وجه سلطان جائر وغير ذلك مما يقدم الركائز الأساسية للفكر السياسى والنظام السياسى . فليس من الصواب ـ إذن ـ أن نقول إن الخلافة دخيلة على الإسلام ؛ فالخلافة هى ولاية أمر المسلمين ، وهذا أمر ثابت فى القرآن والسنة ، وثابت أيضا بإجماع المسلمين على ضرورة من يتولى أمر المسلمين بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويبدو أن كلمة الخلافة تير مخاوف البعض وتقدم التفسير وراء الحملة الضروس التى يتعرض لها نظام الحكم فى الإسلام . ولكن القضية هنا ليست قضية أسماء ؛ فلا قداسة فى الأسماء . فالخلافة يمكن أن تسمى ولاية أو إمارة أوإمامة أو رئاسة أو حكما، ويبقى الجوهر واحدا وهو قيام من يتولى أمر المسلمين ويدبر مصالحهم فى ضوء المبادئ العريضة التى أرساها القرآن والسنة ، فما الخلاف ة إلا شكل من أشكال الحكم فى الإسلام وليست هى شكله الوحيد ، كما يقول د. عبد الحميد متولى .
صحيح أن الخلافة التاريخية انحرلافت فى بعض مراحلها عن مسارها الإسلامى الصحيح فأصبحت حكما وراثيا وشابتها نزعة الاستبداد تتفاوت حدة وضعفا ولعل هذا هو ما حدا الشيخ على عبد الرازق ومن صار على نهجه إلى اتخاذ هذا الموقف المتشدد من قضية الخلافة أو الحكم فى الإسلام . ولكن انحراف الخلافة عن مسارها أمر مقرر تحدث عنها المفكرون المسلمون وناقشه ابن خلدون فى مقدمته حين تناول بالشرح كيف انتقلت الخلافة إلى ملك . ولكن هذا لم يدفع أحدا إلى محاولة هدم فكرة الخلافة أو الحكم الإسلامى من الأساس ؛ فالمعروف أن الانحراف عن المبادئ الصحيحة لا يدين المبادئ ذاتها بقدر ما يدين العابثين بها .
يبقى بعد ذلك ما يذكره الأستاذ على عبد الرازق من أن محمدا عليه السلام ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك . ونحن نجد ترديدا لمثل هذا القول فى بعض الكتابات المعاصرة ؛ فيقول أحد الباحثين مثلا : ( لا نعتقد أن محمدا جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة ، فما كان إلا نبيا ورسولا إلى الناس كافة بدعوة كانت ختام رسالات السماء ) . ويقول باحث آخر : ( لم يذكر القرآن الكريم عن النبى إلا أنه رسول ووظيفته الدعوة إلى الله وهداية الناس ، أى بناء المجتمع وليس حكم الناس كما يفعل الملوك ) . ويذكر باحث ثالث أن الرسول ( لم يقصد إلى سيادة ولم يهدف إلى سلطان ولم يرْنُ إلى ملك ) .
لا حاجة بنا القول أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة وإن رسالته كانت دعوة دينية لم تشبها نزعة ملك ....هذه مسلمات .
ولكن الذى قد نحتاجه إلى توضيحه هنا هو أن الدولة الإسلامية تتكون نتيجة طبيعية لوجود المجتمع المسلم فى أرض له فيها السيادة . فلابد للمجتمع المسلم فى هذه الحالة من أن يقيم لنفسه سلطة أو حكومة ترعى شئونه وتدبر مصالحه . وليس من المتصور أن يستعير هذا المجتمع لحكومته نظريات غريبة على روح الإسلام واتجاهه ؛ فلابد إذن من أن تدير هذه الحكومة شئون المجتمع فى ضوء المبادئ الأساسية التى أرساها الإسلام . وهكذا تنشأ الالدولة الإسلامية حين تتكامل أركانها من شعب وأرض وحكومة . وهذا ـ بتبسيط شديبد ـ ما تعنيه العبارة الشائعة التى قد يساء فهمها كثيرا وهى أن الإسلام دين ودولة . فهذه عبارة لا تعنى على الإطلاق أن الدولة جزء من العقيدة الإسلامية بحيث لا يصح إسلام المرء إلا بإقامتها ؛ فقد بنى الإسلام على خمسة أركان معروفة ، وليس من بينها الاعتقاد فى وجوب تكوين دولة إسلامية . وقد يوجد ىالمسلم فى أرض لا ينتمى شعبها ولا حكومتها للإسلام ، وهو مع ذلك مسلم صحيح الإسلام ما دام يمارس شعائر دينه ويلتزم بمبادئه . كل ما تعنيه العبارة السابقة ـ إذن ـ هو أن المسلمين إذا كانت لهم السيادة وجب عليهم إقامة حكومة تدير شئونهم فى توافق واتساق مع المبادئ العريضة للإسلام . فليس من المقبول أن تسير حكومة الشعب المسلم فى اتجاه معاكس للإسلام رافعة شعار الفصل بين الدين والدولة ؛ لأنه لا فصل بين الدين والدولة بهذا المفهوم ، مع الموافقة التامة على أن الرسول ما جاء ليقيم ملكا وينشئ دولة .
قد ينزعج البعض من فكرة الربط بين الدين والدولة فى الإسلام فيدمغون الحكومة الإسلامية بأنها حكومة ثيوقراطية ، أى حكومة رجال الدين ، وأحيانا يصفونها بأنها حكومة دينية ، أى تدبر أمر دولة دينية ( فى مقابل الدولة المدنية ) .
ونود أن نؤكد على أن الدولة بمفهومها الإسلامى الصحيح هى أبعد ما تكون عن الجمود ، والحكومة فيها تستلهم مبادئ الإسلام الأساسية غير المتغيرة ، وهى قد قامت باختيار المجتمع المسلم ، ومن حق هذا المجتمع أن يسحب منها الثقة ويسقطها فى حالة انحرافها عن مسارها الصحيح .
وهكذا لا تتعدى فكرة الربط بين الدين والدولة مفهوم أن يسير الحكم فى ضوء المبادئ الأساسية الراسخة للإسلام ثم يتمتع نظام الحكم بعد ذلك بخاصية التطور والتكيف مع الظروف المحيطة . ولهذا نجد أنفسنا على اتفاق تام مع ما يقرره المفكر الإسلامى (محمد أسد ) بهذا الصدد إذ يقول : ( يمكننا أن نقرر باطمئنان أنه لا يوجد شكل واحد للدولة الإسلامية ، بل إن هناك أشكالا كثيرة وإن على المسلمين فى كل زمن أن يكتشفوا الشكل الذى يلائم ويحقق حاجاتهم شريطة أن يكون الشكل والنظام اللذان يقع عليهما الاختيار متفقين تماما مع الأحكام الشرعية الظاهرة المتعلقة بتنظيم حياة المجتمع ) . ولكننا لا نستطيع أن نقبل بسهولة ما يذكره الشيخ على عبد الرازق من أن إقامة الشعائر الدينية فى الإسلام ، وصلاح الرعية ، يتوقفان على الحكومة (فى أى صورة كانت الحكومة ، ومن أى نوع : مطلقة أو مقيدة ، فردية أو جمهورية ، استبدادية أو دستورية أو شورية ، ديموقراطية أو اشتراكية أو بلشيفية ) ؛ إذ كيف يمكننا أن نتصور صلاحا لحال الرعية أو إقامة لشعائر الإسلام على يد حكومة بلشفية مثلا ـ كحكومات الجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد السوفيتى السابق ـ لا هم لها إلا نسف الإسلام من قواعده ؟!!.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
8:36 م
مقالات متنوعة
.