رمضان شهر الانتصارات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
وبعد: فمن خصائص شهر رمضان التي لا تعد أنه شهر الانتصارات بشكليها المادي والمعنوي؛ ففيه الانتصار على الأعداء من الكفرة والمشركين، وفيه انتصار الروح على الجسد، والعقل على الهوى، والإرادة الحرة على شهوات النفس ونزغات الشيطان.
والحديث عن الانتصارات التي حدثت في هذا الشهر الكريم لا يتسع المقام لتفصيله؛ لأن أي حدث منها يحتاج إلى مجلدات من السرد والبحث واستجلاء الدروس والعبر، وما سأعرض له الآن – بإذن الله – سيكون حديثًا موجزًا جدًا عن بعض هذه الأحداث.
وأرجو منك – أيها القارئ الكريم – أن ترجع إلى كتب السير لتقرأ وتقف على ما كان عليه سلفك الصالح في رمضان، وما كافأهم الله به من انتصارات، في ذات الشهر.
ولا شك أنك إن فعلت سيتحقق لك – بإذن الله – انتفاع عظيم يكفيك أن تكون موصول الصلة، ولو لوقت يسير بأولئك الرجال الذين صدقوا الله فصدقهم!
وعليك – أخي القارئ – أن تقارن ما تقرأه عن ماضيك على حاضرك، فسيتضح لك أين الخلل!
إن أكثر المعارك الفاصلة في حياة الدعوة الإسلامية إنما وقعت في هذا الشهر:
في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة كانت غزوة بدر الكبرى التي سماها الله فرقانًا، وجعلها آية على تأييده لنبيه وللمؤمنين، وذلك عندما أخذ المؤمنون بأسباب النصر: من صدق الإيمان، وحسن التوكل على الله، واليقين في وعده والإخلاص، وسلامة القلب، وإعداد العدة والصبر عند اللقاء، فكان لهم التأييد من الله – عز وجل.
وقد نزلت فيها الملائكة من السماء تثبيتًا لقلوب المؤمنين وتبشيرهم بالنصر، ومن ذا الذي يقوى على مواجهة الملائكة!!
وقيل: أنها قاتلت معهم بناء على قول الله – تعالى – مخاطبًا الملائكة، والمؤمنين: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12].
ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم واستجابة حية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يخوضون أول تجربة قتال في سبيل الله لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد.
وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك.
ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معللاً نزول الملائكة: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم)[الأنفال: 10]
وأيًا ما كان فقد كانت غزوة بدر أول غزوة، وأعظم غزوة، علت فيها كلمة الإسلام، وتجلت أنواره، ولهذا غفر الله لكل من شهدها من الصحابة، وقال لهم في الحديث الصحيح: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يقتل حاطب بن أبي بلتعة حين كتب كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه أن رسول الله r قال له: «أنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»().
بعض الدروس من غزوة بدر ():
أن المسلمين في بدر كانوا قليلي العدد ناقصي العتاد، وكان أعداؤهم كثيري العدد والعدة، ولكنهم حاربوا طاعة لنبيهم r، واستماتوا في الدفاع عن عقيدتهم، وقد وصفهم الله في القرآن بأنهم كانوا (أذلةٌ) والإنسان لا يشعر بالذل إلا في حالة العجز الذاتي؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].
أن المسلمين لم يكونوا يتوقعون النصر يوم بدر إلا إذا جاءهم من طريق الإعجاز، ويدل على ذلك قوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: 9].
ومنها: أنهم انتصروا على أعدائهم نصرًا كبيرًا وهم يعتقدون أنه عطاء من الله لم ينالوه بقوتهم فقط؛ لقوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 17].
وإذا كان الأمر كذلك فالنصر لا يكون إلا من الله؛ كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
ولا يؤتي الله النصر إلا لمن أخلص له وحده.
أن المسلمين لما خرجوا للاستيلاء على قافلة قريش يوم بدر لم يستعدوا للأمر الاستعداد العظيم؛ لأنهم سيقتلون جماعة من الحراس، وهي لا تقتضي أكثر من الهجوم عليها بالأسلحة الخفيفة للاستيلاء على القافلة، أما الالتحام مع جيش فيستدعي تعبئة أشد وعددًا وعدة.
وقد أمر النبي المسلمين أن يقاتلوا جيش قريش الذي أرسلته لحماية القافلة بناء على وعد الله بالنصر، قال تعالى:(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7].
فلما أفلتت إحدى الطائفتين وهي (القافلة) لا بد أن يصدق وعد الله في الأخرى وهي (جيش قريش) فدعا النبي r إلى مقاتلة جيش قريش؛ وقد أدى ذلك إلى موقف من التردد عند بعض أصحابه رضي الله عنهم أدركه النبي r وعمل على ملافاته.
يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، ببثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم، وليتبينوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد.
ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك؛ بشرط ألا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتمًا أو نوعًا من المخادعة أو التحايل، وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه واسطة لمصلحة المسلمين وحفظهم.
وقد جاء في كتب السيرة أن النبي r لما نزل قريبًا من بدر ركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله النبي r عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: «لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال r: «إذا أخبرتنا أخبرناك»، فقال: أذاك بذاك؟، قال: «نعم». فأخبره الشيخ بما يعلم من أمر المشركين، وبما قد سمع من أمر النبي وأصحابه؛ حتى إذا فرغ من كلامه قال: ممن أنتما؟ فقال النبي r: «نحن من ماء»، ثم انصرف عنه، فأخذ الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!»().
فلو لم يكن النبي r واثقًا كل الثقة من صدق ما ينزل عليه من الوحي لما أقدم على الزج بجيشه في هذه الحرب التي لا تبشر بالنصر للأسباب الآتية:
أولاً: تفوق جيش قريش في العدد حيث كان على نسبة ثلاثة على واحد؛ وهذا يعتبر في عرف رجال الحرب تفوقًا ساحقًا، وخصوصًا في ذلك الزمن حيث كانت القتال بالنبال والسيوف والحراب، فقد كان عدد المسلمين 315 وعدد المشركين 950 مقاتلاً.
ثانيًا: تفوق العدو في الأسلحة، وهي العوامل الفاصلة في الحروب؛ فقد كان معهم مائتا فرس، وكان مع المسلمين فرسان فقط.
فالقائد الماهر الذي يدفع بجيشه إلى الحرب موقنًا بالنصر، ويقول له كما قال النبي r لجنوده قبل معركة بدر: «أبشروا والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»().
ثم يتحقق قوله وينتصر المسلمون على قريش انتصارًا ساحقًا، إن هذا لا يمكن تعليله إلا بأنه رسول الله حقًا أيده الله بالنصر.
في شهر رمضان من السنة الخامسة من الهجرة كان الاستعداد لغزوة الخندق أو «الأحزاب» التي انتصر فيها المسلمون بفضل الله ورحمته بغير قتال ولا معركة سوى مبارزات ومناوشات محدودة (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25].
وفي شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة تحطمت بعد فتح مكة رموز الشرك، وتهاوت الأصنام التي عبدها الناس من دون الله دهورًا طويلة، فقد بعث رسول الله r خالد بن الوليد لهدم إله المشركين الأكبر «العزى»!! فهدمها، وبعث عمروًا بن العاص فهدم «اللات»، وبعث سعدًا بن زيد الأشهلي فهدم «مناة».
وكان ذلك إعلانًا صريحًا بأن القلوب يجب عليها أن تتعلق بالله، ولا تلتفت إلى أحد سواه من الأحياء أو الأموات أو الأصنام أو الأضرحة، وهذا هو التوحيد الذي جاء به رسول الله r.
في الحادي والعشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة كان الفتح الأكبر: فتح مكة، وكان هذا الفتح ثمرة جهاد طويل بالسيف واللسان لسنوات طويلة، قد تحلى فيها المؤمنون الصادقون بالصبر واليقين.
وكان فتح مكة – كذلك – هو اليوم الذي استخزى فيه الشرك وذل، وألقى السلاح، وأسلس القياد بعد طول تمرد وعناد، ودخل رسول الله r مكة دخولاً لم يدخله أحد قبله، وقد طأطأ رأسه تواضعًا لربه حتى كادت ذقنه تمس رحله ().
ودخل المسجد الحرام الذي بناه أبواه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام، فحطم ما كان يعلوه ويحيط به من الأوثان والأصنام، وأخذ يطعنها بقضيب في يده فتخر صريعة على وجهها، وهو يتلو قوله تعالى:(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]
فها هو النبي r خرج من وطنه مكة مستخفيًا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرًا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟
ها هم أولاء قد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخروجهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين، ودخل أهل مكة في دين الله أفواجًا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد الكعبة ينادي بأعلى صوته نداء الحق: الله أكبر ... الله أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أهوال التعذيب: أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلاً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع، ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثاني لها: هي الإسلام؛ فما أحمق الإنسان وما أجهله، حينما يكافح ويناضل أو يجاهد في غير سبيل الإسلام، إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل.
من أعظم دروس الفتح:
العقيدة : كان جيش الفتح مؤلفًا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، ولا يوجد بينهم غير العقيدة الواحدة التي يضحي الجميع من أجلها وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بينهم سائدًا.
لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي؛ وأما على النطاق الفردي فقد رأينا كيف طوت أم حبيبة زوج النبي r فراش النبي r عن أبيها أبي سفيان، وقد جاءها من سفر قاصد بعد غياب طويل؛ ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي r رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي r، فلما وصل إليها قال: «يا رسول الله! دعني أضرب عنقه». قال العباس: «يا رسول الله: إني قد أجرته»، فلما أكثر عمر قال العباس: «مهلاً يا عمر! ما تصنع هذا إلا أنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة»، فقال عمر: «مهلاً يا عباس! فو الله إن إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم».
لقد كان عمر يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟! إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية؛ بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، ولينتصروا على أعدائهم؛ فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.
السلم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
وبعد: فمن خصائص شهر رمضان التي لا تعد أنه شهر الانتصارات بشكليها المادي والمعنوي؛ ففيه الانتصار على الأعداء من الكفرة والمشركين، وفيه انتصار الروح على الجسد، والعقل على الهوى، والإرادة الحرة على شهوات النفس ونزغات الشيطان.
والحديث عن الانتصارات التي حدثت في هذا الشهر الكريم لا يتسع المقام لتفصيله؛ لأن أي حدث منها يحتاج إلى مجلدات من السرد والبحث واستجلاء الدروس والعبر، وما سأعرض له الآن – بإذن الله – سيكون حديثًا موجزًا جدًا عن بعض هذه الأحداث.
وأرجو منك – أيها القارئ الكريم – أن ترجع إلى كتب السير لتقرأ وتقف على ما كان عليه سلفك الصالح في رمضان، وما كافأهم الله به من انتصارات، في ذات الشهر.
ولا شك أنك إن فعلت سيتحقق لك – بإذن الله – انتفاع عظيم يكفيك أن تكون موصول الصلة، ولو لوقت يسير بأولئك الرجال الذين صدقوا الله فصدقهم!
وعليك – أخي القارئ – أن تقارن ما تقرأه عن ماضيك على حاضرك، فسيتضح لك أين الخلل!
إن أكثر المعارك الفاصلة في حياة الدعوة الإسلامية إنما وقعت في هذا الشهر:
في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة كانت غزوة بدر الكبرى التي سماها الله فرقانًا، وجعلها آية على تأييده لنبيه وللمؤمنين، وذلك عندما أخذ المؤمنون بأسباب النصر: من صدق الإيمان، وحسن التوكل على الله، واليقين في وعده والإخلاص، وسلامة القلب، وإعداد العدة والصبر عند اللقاء، فكان لهم التأييد من الله – عز وجل.
وقد نزلت فيها الملائكة من السماء تثبيتًا لقلوب المؤمنين وتبشيرهم بالنصر، ومن ذا الذي يقوى على مواجهة الملائكة!!
وقيل: أنها قاتلت معهم بناء على قول الله – تعالى – مخاطبًا الملائكة، والمؤمنين: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12].
ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم واستجابة حية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يخوضون أول تجربة قتال في سبيل الله لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد.
وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك.
ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معللاً نزول الملائكة: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم)[الأنفال: 10]
وأيًا ما كان فقد كانت غزوة بدر أول غزوة، وأعظم غزوة، علت فيها كلمة الإسلام، وتجلت أنواره، ولهذا غفر الله لكل من شهدها من الصحابة، وقال لهم في الحديث الصحيح: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يقتل حاطب بن أبي بلتعة حين كتب كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه أن رسول الله r قال له: «أنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»().
بعض الدروس من غزوة بدر ():
أن المسلمين في بدر كانوا قليلي العدد ناقصي العتاد، وكان أعداؤهم كثيري العدد والعدة، ولكنهم حاربوا طاعة لنبيهم r، واستماتوا في الدفاع عن عقيدتهم، وقد وصفهم الله في القرآن بأنهم كانوا (أذلةٌ) والإنسان لا يشعر بالذل إلا في حالة العجز الذاتي؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].
أن المسلمين لم يكونوا يتوقعون النصر يوم بدر إلا إذا جاءهم من طريق الإعجاز، ويدل على ذلك قوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: 9].
ومنها: أنهم انتصروا على أعدائهم نصرًا كبيرًا وهم يعتقدون أنه عطاء من الله لم ينالوه بقوتهم فقط؛ لقوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 17].
وإذا كان الأمر كذلك فالنصر لا يكون إلا من الله؛ كما قال سبحانه: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
ولا يؤتي الله النصر إلا لمن أخلص له وحده.
أن المسلمين لما خرجوا للاستيلاء على قافلة قريش يوم بدر لم يستعدوا للأمر الاستعداد العظيم؛ لأنهم سيقتلون جماعة من الحراس، وهي لا تقتضي أكثر من الهجوم عليها بالأسلحة الخفيفة للاستيلاء على القافلة، أما الالتحام مع جيش فيستدعي تعبئة أشد وعددًا وعدة.
وقد أمر النبي المسلمين أن يقاتلوا جيش قريش الذي أرسلته لحماية القافلة بناء على وعد الله بالنصر، قال تعالى:(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7].
فلما أفلتت إحدى الطائفتين وهي (القافلة) لا بد أن يصدق وعد الله في الأخرى وهي (جيش قريش) فدعا النبي r إلى مقاتلة جيش قريش؛ وقد أدى ذلك إلى موقف من التردد عند بعض أصحابه رضي الله عنهم أدركه النبي r وعمل على ملافاته.
يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، ببثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم، وليتبينوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد.
ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك؛ بشرط ألا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتمًا أو نوعًا من المخادعة أو التحايل، وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه واسطة لمصلحة المسلمين وحفظهم.
وقد جاء في كتب السيرة أن النبي r لما نزل قريبًا من بدر ركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله النبي r عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: «لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال r: «إذا أخبرتنا أخبرناك»، فقال: أذاك بذاك؟، قال: «نعم». فأخبره الشيخ بما يعلم من أمر المشركين، وبما قد سمع من أمر النبي وأصحابه؛ حتى إذا فرغ من كلامه قال: ممن أنتما؟ فقال النبي r: «نحن من ماء»، ثم انصرف عنه، فأخذ الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!»().
فلو لم يكن النبي r واثقًا كل الثقة من صدق ما ينزل عليه من الوحي لما أقدم على الزج بجيشه في هذه الحرب التي لا تبشر بالنصر للأسباب الآتية:
أولاً: تفوق جيش قريش في العدد حيث كان على نسبة ثلاثة على واحد؛ وهذا يعتبر في عرف رجال الحرب تفوقًا ساحقًا، وخصوصًا في ذلك الزمن حيث كانت القتال بالنبال والسيوف والحراب، فقد كان عدد المسلمين 315 وعدد المشركين 950 مقاتلاً.
ثانيًا: تفوق العدو في الأسلحة، وهي العوامل الفاصلة في الحروب؛ فقد كان معهم مائتا فرس، وكان مع المسلمين فرسان فقط.
فالقائد الماهر الذي يدفع بجيشه إلى الحرب موقنًا بالنصر، ويقول له كما قال النبي r لجنوده قبل معركة بدر: «أبشروا والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»().
ثم يتحقق قوله وينتصر المسلمون على قريش انتصارًا ساحقًا، إن هذا لا يمكن تعليله إلا بأنه رسول الله حقًا أيده الله بالنصر.
في شهر رمضان من السنة الخامسة من الهجرة كان الاستعداد لغزوة الخندق أو «الأحزاب» التي انتصر فيها المسلمون بفضل الله ورحمته بغير قتال ولا معركة سوى مبارزات ومناوشات محدودة (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25].
وفي شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة تحطمت بعد فتح مكة رموز الشرك، وتهاوت الأصنام التي عبدها الناس من دون الله دهورًا طويلة، فقد بعث رسول الله r خالد بن الوليد لهدم إله المشركين الأكبر «العزى»!! فهدمها، وبعث عمروًا بن العاص فهدم «اللات»، وبعث سعدًا بن زيد الأشهلي فهدم «مناة».
وكان ذلك إعلانًا صريحًا بأن القلوب يجب عليها أن تتعلق بالله، ولا تلتفت إلى أحد سواه من الأحياء أو الأموات أو الأصنام أو الأضرحة، وهذا هو التوحيد الذي جاء به رسول الله r.
في الحادي والعشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة كان الفتح الأكبر: فتح مكة، وكان هذا الفتح ثمرة جهاد طويل بالسيف واللسان لسنوات طويلة، قد تحلى فيها المؤمنون الصادقون بالصبر واليقين.
وكان فتح مكة – كذلك – هو اليوم الذي استخزى فيه الشرك وذل، وألقى السلاح، وأسلس القياد بعد طول تمرد وعناد، ودخل رسول الله r مكة دخولاً لم يدخله أحد قبله، وقد طأطأ رأسه تواضعًا لربه حتى كادت ذقنه تمس رحله ().
ودخل المسجد الحرام الذي بناه أبواه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام، فحطم ما كان يعلوه ويحيط به من الأوثان والأصنام، وأخذ يطعنها بقضيب في يده فتخر صريعة على وجهها، وهو يتلو قوله تعالى:(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]
فها هو النبي r خرج من وطنه مكة مستخفيًا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرًا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟
ها هم أولاء قد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخروجهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين، ودخل أهل مكة في دين الله أفواجًا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد الكعبة ينادي بأعلى صوته نداء الحق: الله أكبر ... الله أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أهوال التعذيب: أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلاً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع، ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثاني لها: هي الإسلام؛ فما أحمق الإنسان وما أجهله، حينما يكافح ويناضل أو يجاهد في غير سبيل الإسلام، إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل.
من أعظم دروس الفتح:
العقيدة : كان جيش الفتح مؤلفًا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، ولا يوجد بينهم غير العقيدة الواحدة التي يضحي الجميع من أجلها وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بينهم سائدًا.
لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي؛ وأما على النطاق الفردي فقد رأينا كيف طوت أم حبيبة زوج النبي r فراش النبي r عن أبيها أبي سفيان، وقد جاءها من سفر قاصد بعد غياب طويل؛ ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي r رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي r، فلما وصل إليها قال: «يا رسول الله! دعني أضرب عنقه». قال العباس: «يا رسول الله: إني قد أجرته»، فلما أكثر عمر قال العباس: «مهلاً يا عمر! ما تصنع هذا إلا أنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة»، فقال عمر: «مهلاً يا عباس! فو الله إن إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم».
لقد كان عمر يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟! إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية؛ بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، ولينتصروا على أعدائهم؛ فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.
السلم
;حرص النبي r في خروجه لفتح مكة على نياته السلمية ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام، وقد عهد r إلى قادته حينما أمرهم أن يدخلوا مكة، ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وبقي النبي r مصرًا على نياته السلمية بعد الفتح أيضًا؛ فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»
كما حرص النبي r على السلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي؛ فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
بل إن النبي r لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصيًا وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه، فقد اقترب فضال بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي r نظرة عرف بها طويته فاستدعاه وسأله: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: «لا شيء! كنت أذكر الله»، فضحك النبي r وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: «ما رفع يده عن صدري، حتى ما خلق الله شيئًا أحب إلي منه»().
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي r فقال: «يا رسول الله اجعل لنا الحجابة مع السقاية»، فقال r: «أين عثمان بن طلحة؟» فلما جاء عثمان قال له: «يا ابن طلحة هاك مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء»().
وقد رأى المسلمون النبي r يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذاك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعًا، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعًا لله وشكرًا.
تلك هي سمات الخلق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام؛ ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم؛ لحاضر أفضل ومستقبل أحسن، وهي عبرة لمن يعتبر.
وفي شهر رمضان أقبلت الوفود على رسول الله r تعلن إسلامها من قبائل شتى وبلاد متفرقة بعد أن أيقنت أن هذا الدين هو الحق من عند الله العزيز الحكيم، وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجًا.
وفي شهر رمضان المبارك حدثت انتصارات عظيمة غير ما ذكرناه لا يتسع المقام لبسطها، ولعل من أبرز هذه الانتصارات: الانتصارات الرائعة التي أحرزها المجاهد صلاح الدين الأيوبي على الصليبين، وأدركه شهر رمضان منتصرًا وهو صائم في سنة 584هـ، فأشار عليه رجاله أن يرتاح في شهر الصوم، فخاف على نفسه من انقضاء الأجل قبل إكمال النصر!! فواصل زحفه حتى استولى على قلعة صفد الحصينة في منتصف رمضان من نفس العام.
وهناك وقائع أخرى كثيرة وعاها التاريخ، وكان لها أكبر الأثر في عزة الإسلام وعلو كلمته وقعت في ذلك الشهر العظيم؛ أذكر منها تلك الموقعة التي كانت بين المسلمين والتتار، والتي سميت بوقعة (مرج الصفر) أو (شقحب)، وفيها انتصر المسلمون على التتار انتصارًا ساحقًا، واتبعوا فلولهم المنهزمة يقتلون ويأسرون.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ممن شهد هذه الغزوة، وأبلى فيها بلاء عظيمًا، ووقف فيها وقفة طويلة رافعًا يديه إلى السماء يدعو الله ويستغيث، ثم حارب هو وأخوه شرف، وقد أمر الجند بالفطر في هذه المعركة لكي يقووا على لقاء عدوهم كما أمر النبي r أصحابه صبيحة بدر أن يفطروا وجعل ذلك عزمة عليهم.
وفي العصر الحديث حاربنا اليهود في العاشر من رمضان سنة 1393هـ فكان انتصارنا بقدر إقبالنا على الله، وكانت هزيمتنا بقدر إعراضنا عن الله!! ولأننا خلطنا أعمالنا السيئة بأعمالنا الصالحة، وجمعنا في حياتنا بين الطاعة والمعصية، فقد جمع الله لنا بين حلاوة النصر، ومرارة الهزيمة: }
كما حرص النبي r على السلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي؛ فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
بل إن النبي r لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصيًا وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه، فقد اقترب فضال بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي r نظرة عرف بها طويته فاستدعاه وسأله: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: «لا شيء! كنت أذكر الله»، فضحك النبي r وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: «ما رفع يده عن صدري، حتى ما خلق الله شيئًا أحب إلي منه»().
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي r فقال: «يا رسول الله اجعل لنا الحجابة مع السقاية»، فقال r: «أين عثمان بن طلحة؟» فلما جاء عثمان قال له: «يا ابن طلحة هاك مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء»().
وقد رأى المسلمون النبي r يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذاك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعًا، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعًا لله وشكرًا.
تلك هي سمات الخلق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام؛ ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم؛ لحاضر أفضل ومستقبل أحسن، وهي عبرة لمن يعتبر.
وفي شهر رمضان أقبلت الوفود على رسول الله r تعلن إسلامها من قبائل شتى وبلاد متفرقة بعد أن أيقنت أن هذا الدين هو الحق من عند الله العزيز الحكيم، وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجًا.
وفي شهر رمضان المبارك حدثت انتصارات عظيمة غير ما ذكرناه لا يتسع المقام لبسطها، ولعل من أبرز هذه الانتصارات: الانتصارات الرائعة التي أحرزها المجاهد صلاح الدين الأيوبي على الصليبين، وأدركه شهر رمضان منتصرًا وهو صائم في سنة 584هـ، فأشار عليه رجاله أن يرتاح في شهر الصوم، فخاف على نفسه من انقضاء الأجل قبل إكمال النصر!! فواصل زحفه حتى استولى على قلعة صفد الحصينة في منتصف رمضان من نفس العام.
وهناك وقائع أخرى كثيرة وعاها التاريخ، وكان لها أكبر الأثر في عزة الإسلام وعلو كلمته وقعت في ذلك الشهر العظيم؛ أذكر منها تلك الموقعة التي كانت بين المسلمين والتتار، والتي سميت بوقعة (مرج الصفر) أو (شقحب)، وفيها انتصر المسلمون على التتار انتصارًا ساحقًا، واتبعوا فلولهم المنهزمة يقتلون ويأسرون.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ممن شهد هذه الغزوة، وأبلى فيها بلاء عظيمًا، ووقف فيها وقفة طويلة رافعًا يديه إلى السماء يدعو الله ويستغيث، ثم حارب هو وأخوه شرف، وقد أمر الجند بالفطر في هذه المعركة لكي يقووا على لقاء عدوهم كما أمر النبي r أصحابه صبيحة بدر أن يفطروا وجعل ذلك عزمة عليهم.
وفي العصر الحديث حاربنا اليهود في العاشر من رمضان سنة 1393هـ فكان انتصارنا بقدر إقبالنا على الله، وكانت هزيمتنا بقدر إعراضنا عن الله!! ولأننا خلطنا أعمالنا السيئة بأعمالنا الصالحة، وجمعنا في حياتنا بين الطاعة والمعصية، فقد جمع الله لنا بين حلاوة النصر، ومرارة الهزيمة: }
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ){ [آل عمران: 182].
أحداث أخرى حدثت في شهر رمضان
ونوجز منها:
تبدأ هذه الأحداث منذ آثر محمد بن عبد الله بن عبد المطلب العزلة، وحبب إليه الخَلاءُ؛ ففي رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا كان الرسول عليه صلوات الله وسلامه يجاور على عادته في رمضان ففجأه الحق وهو في غار «حراء»
في شهر رمضان بعد هجرة النبي بسبعة أشهر كانت سرية سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى ساحل البحر للجهاد في سبيل الله .
في السنة الثانية للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك عقد رسول الله r أخطر مؤتمر للشورى عرفه تاريخ المسلمين؛ فعندما علم الرسول r وأصحابه أن أبا سفيان بن حرب قد خرج من مكة إلى الشام في تجارة كبيرة، بادر النبي صلوات الله وسلامه عليه في مائتي مُقاتل من أصحابه لاعتراض القافلة، ولكن أبا سفيان تمكن من النجاة وتابع طريقه إلى الشام ().
في هذا الشهر الكريم المبارك طُويت أكبر راية من رايات الجاهلية السود ... وهوى أضخم صنم من أصنام الشرك في جزيرة العرب؛ ففي السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين للهجرة لقي أبو جهل مصرعه على أيدي المسلمين في «بدر»، وغيبت رمال «القَلِيبِ»() في جوفها السحيق أكبر طاغية عرفته جزيرة العرب ().
في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة فرضت زكاة الفطر قبل عيد الفطر بيومين.
في شهر رمضان من السنة الرابعة للهجرة تزوج رسول الله r بأم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث التي كانت تلقب بأم المساكين، رضي الله عنها ().
في شهر رمضان من السنة السادسة للهجرة، أصيب الناس بقحط، فاستسقى لهم رسول الله r فسقاهم الله تبارك وتعالى ().
وفي الرابع والعشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة بعث عليه الصلاة والسلام، سعدًا بن زيد الأشهلي إلى إحدى الأصنام وكان يُدعى «مَنَاةَ» فهدمها ().
في رمضان سنة ثمان للهجرة، وفي الخامس والعشرين من الشهر المعظم على الأرجح أمر الرسول الكريم r بهدم أكبر صنم كان يُعْبَدُ من دون الله في جزيرة العرب؛ كان الصنم الذي هوى يسمى «العُزَّى» ... واليد التي حطمته يد سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه ().
وفي رمضان سنة تسع للهجرة، وفدت «ثَقِيفٌ» صاحبة صنم «اللات» على الرسول r تعرض إسلامها عليه، بعد إباء عنيد ونفور جامع دام عشرين عامًا، وتاريخ الدعوة الإسلامية يروي لثقيف وإسلامها قصة قاتمة البداية مشرقة النهاية؛ فقد سألوا الرسول r أن يترك لهم «اللات» ثلاث سنين لا يهدمها!! فأبى الرسول r ذلك، فما برحوا يسألونه سنة ويأبى عليهم ذلك؛ حتى سألوا شهرًا واحدًا، فأبى عليهم أن يدعها شيئًا مسمى، وأصر على هدمها، فسألوه ألا يهدموها بأيديهم ...
فقال عليه الصلاة والسلام: «أما كسر أصناكم بأيديكم فسنعفيكم منه»()، ثم أرسل عليه الصلاة والسلام معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما لهدم «اللاتِ»، وقد كان بفضل من الله.
فهنيئًا للمسلمين برمضان ... هنيئًا لهم أيامه الغُرَّ ...
ففيها استُخْزَتِ() الأوثان ... وفيها اجتُثَّتِ() الأصنام...().
في سنة مائتين وثلاث وعشرين للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك ... اقتحم المعتصم بن الرشيد حصون «عَمُّوريَّةَ» في مائة وخمسين ألفًا من جنوده، وفتح المدينة التي عزت على الفاتحين منذ عهد «الإسكندر المقدوني» إلى يومه.
فكانت وقعة عمورية غرة في جبين الدهر، ودرة في تاريخ الإسلام، وتاجًا زان مفرق المعتصم ().
في شهر رمضان سنة أربعمائة واثنتين وتسعين للهجرة رَوَّعَ العالمَ الإسلاميَّ من أقصاه إلى أقصاه احتلالُ الصليبيين لأولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله r؛ فكان يومًا حزينًا من أيام المسلمين لا تذهب الأيام بمرارته، ولا تمحو الأحداث الجسام ذكراه.
وبعد نيف وتسعين عامًا والمسجد الأقصى أسير في أيدي الصليبيين جاء القائد المسلم صلاح الدين، الذي أمضى ربع قرن من حياته لم يظله سقف إلا قليلاً، وإنما كان مسكنه الدائم إما صهوة جواد، وإما خيمة تضرب له في العراء.
القائد الذي تحلى بصفات البطولة، فلم تفارقه في حالي صحته ومرضه، ويومي نصره وهزيمته، وأمري عسره ويسره.
بهذه الصفات قاد صلاح الدين جند المسلمين من نصر إلى نصر، وجاء الفتح من الله جل وعلا على يده وأنزل الصليب الأكبر الذي كان منصوبًا على قبة الصخرة، ومحيت التصاوير التي كانت منقوشة على جدران المساجد، وأزيلت النواقيس من فوق مناراته، وانطلقت من فوق المنائر أصوات الأذان، وامتزجت أصوات المؤذنين بتلاوة القرآن.
وإذ تمر تلك الأحداث نضرع لله أن يكرم المسلمين بيوم آخر كيوم الفتح يمحون فيه العار، ويزيلون الشنار، ويستردون القدس المسلوب، ويستنقذون الحرم المغضوب من أحفاد القردة والخنازير أعداء الإنسانية؛ وبذلك تقر عين الفاتح الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتَبَر روح القائد الثاني صلاح الدين رحمه الله ().
في صباح الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وست مائة كان يومًا مشهودًا من أيام الإسلام التي لا تنسى، أعز الله فيه دينه ودحر الطغاة والكافرين في «عين جالوت» الواقعة بين بيسان ونابلس.
التقى جيش المسلمين بقيادة القائد المظفر «قطز» وجيش التتار العرمرم الذي خرج من أطراف الصين وهب على البشرية هبوب الأعاصير فاجتاح الممالك، وأزال الدول، وأباد الجيوش، وأهلك الحرث والنسل؛ فقد استطاع في فترة وجيزة أن يستولي على الصين، وكوريا، وأن يجتاح من جهة أخرى بلغاريا، وروسيا، والمجر، وبولونيا.
وأن يخضع من جهة ثالثة تركستان، وسمرقند، وبخارى، ثم ابتلع فوق ذلك الري – تهران حاليًا، وهمذان، وبلاد الجبل، والتهم سجستان، وكرمان، وغزنة وما جاورها من بلاد الهند، حتى لم يبق على ظهر الأرض شعب إلا كان يرتجف فؤاده خوفًا منه، وينتظر أن يحين حينه على يديه.
وهؤلاء الأوغاد أنزلوا ببلاد المسلمين من الدمار ما لم ينزلوه ببلاد سواها، وأحلوها بها من الهول ما اقشعرت له جلود المؤرخين، وارتجفت لكتابته أقلامهم.
وعند بدء النزال أخذت سهام التتار تنصب على رؤوس المسلمين انصبابًا فتمزق صفوفهم، وتفرق جموعهم، وتشل حركتهم.
ولما اشتد على المسلمين الكرب أمرهم السلطان القائد بالهجوم على عدو الله وعدوهم فتصافحت السيوف مع السيوف، واستحر القتل بين الفريقين واستبسل كل منهما غاية الاستبسال.
ولما رأى الملك المظفر شدة بأس عدوه، ووفرة عدده، وكثرة عدته خلع خوذته عن رأسه، وألقى بها على الأرض، وردد بصوته الأجش قولته المشهورة: واَإسْلامَاهُ ... واَإسْلامَاهُ.
فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم أفئدتهم بالحمية للإسلام، فانقضوا على عدوهم انقضاض الشهب، وما زالوا يناضلونه حتى خلخلوا صفوفه المتراصة، وأوغلوا في جموعه المحتشدة، فألقى الله الوهن في نفوس التتار، وقذف في قلوبهم الرعب، وما هي إلا ساعة حتى بدأ العدو يتأخر، ثم طفق يتقهقر، ثم ولى الدبر، فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم ومزقوهم شر ممزق؛ فلقد كان يوم (عين جالوت) أول يوم يُغلب فيه الغالبون، يُقهر فيه القاهرون، ثم لم تقم للتتار قائمة بعد ذلك.
وكان المملوك «سيف الدين قطز» أول رجل أذل «هولاكو» الجبار ().
في رمضان سنة ست مائة وست وستين وفي اليوم الرابع عشر منه، شهد تاريخ الإسلام يومًا من أعظم أيامه وفتحًا من أجل فتوحه، أعز الله فيه المسلمين بعد هوان، وأعلى فيه رايات الإسلام، ورفع أعلام القرآن، وكان صاحب هذا الفتح العظيم بطلاً من أبطال المسلمين وقائدًا من قوادهم الغر الميامين.
بطل ظل على مدى سبعة عشر عامًا يُشَرَّقُ في أرض المسلمين وَيُغَرَّبُ، يُنازلُ التتار الوثنيين، ويقارع الصليبيين الباغين؛ فما فل له سيف، ولا لانت له قناة ولا انكسر في موقعة، حتى ألقى الله مهابته ورعبه في قلوب أعدائه وأعداء الله، هذا البطل هو الملك الظاهر بيبرس.
أما يومه الباقي على وجه الدهر فهو يوم فتح «أنطاكية»()، واستنقاذها من أيدي الصليبيين ().
وأحداث رمضان كثيرة لا تحصى، ولكنا أتينا بنماذج للتذكرة ولا أظنها تغيب عن بال المسلم، وخلاصة هذه الأحداث هي:
كون الإسلام وما يزال وسيظل إن شاء الله عدة النصر للمسلمين، وسبيل العزة للمؤمنين.
وصدق الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ولو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أحداث أخرى حدثت في شهر رمضان
ونوجز منها:
تبدأ هذه الأحداث منذ آثر محمد بن عبد الله بن عبد المطلب العزلة، وحبب إليه الخَلاءُ؛ ففي رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا كان الرسول عليه صلوات الله وسلامه يجاور على عادته في رمضان ففجأه الحق وهو في غار «حراء»
في شهر رمضان بعد هجرة النبي بسبعة أشهر كانت سرية سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى ساحل البحر للجهاد في سبيل الله .
في السنة الثانية للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك عقد رسول الله r أخطر مؤتمر للشورى عرفه تاريخ المسلمين؛ فعندما علم الرسول r وأصحابه أن أبا سفيان بن حرب قد خرج من مكة إلى الشام في تجارة كبيرة، بادر النبي صلوات الله وسلامه عليه في مائتي مُقاتل من أصحابه لاعتراض القافلة، ولكن أبا سفيان تمكن من النجاة وتابع طريقه إلى الشام ().
في هذا الشهر الكريم المبارك طُويت أكبر راية من رايات الجاهلية السود ... وهوى أضخم صنم من أصنام الشرك في جزيرة العرب؛ ففي السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين للهجرة لقي أبو جهل مصرعه على أيدي المسلمين في «بدر»، وغيبت رمال «القَلِيبِ»() في جوفها السحيق أكبر طاغية عرفته جزيرة العرب ().
في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة فرضت زكاة الفطر قبل عيد الفطر بيومين.
في شهر رمضان من السنة الرابعة للهجرة تزوج رسول الله r بأم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث التي كانت تلقب بأم المساكين، رضي الله عنها ().
في شهر رمضان من السنة السادسة للهجرة، أصيب الناس بقحط، فاستسقى لهم رسول الله r فسقاهم الله تبارك وتعالى ().
وفي الرابع والعشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة بعث عليه الصلاة والسلام، سعدًا بن زيد الأشهلي إلى إحدى الأصنام وكان يُدعى «مَنَاةَ» فهدمها ().
في رمضان سنة ثمان للهجرة، وفي الخامس والعشرين من الشهر المعظم على الأرجح أمر الرسول الكريم r بهدم أكبر صنم كان يُعْبَدُ من دون الله في جزيرة العرب؛ كان الصنم الذي هوى يسمى «العُزَّى» ... واليد التي حطمته يد سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه ().
وفي رمضان سنة تسع للهجرة، وفدت «ثَقِيفٌ» صاحبة صنم «اللات» على الرسول r تعرض إسلامها عليه، بعد إباء عنيد ونفور جامع دام عشرين عامًا، وتاريخ الدعوة الإسلامية يروي لثقيف وإسلامها قصة قاتمة البداية مشرقة النهاية؛ فقد سألوا الرسول r أن يترك لهم «اللات» ثلاث سنين لا يهدمها!! فأبى الرسول r ذلك، فما برحوا يسألونه سنة ويأبى عليهم ذلك؛ حتى سألوا شهرًا واحدًا، فأبى عليهم أن يدعها شيئًا مسمى، وأصر على هدمها، فسألوه ألا يهدموها بأيديهم ...
فقال عليه الصلاة والسلام: «أما كسر أصناكم بأيديكم فسنعفيكم منه»()، ثم أرسل عليه الصلاة والسلام معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما لهدم «اللاتِ»، وقد كان بفضل من الله.
فهنيئًا للمسلمين برمضان ... هنيئًا لهم أيامه الغُرَّ ...
ففيها استُخْزَتِ() الأوثان ... وفيها اجتُثَّتِ() الأصنام...().
في سنة مائتين وثلاث وعشرين للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك ... اقتحم المعتصم بن الرشيد حصون «عَمُّوريَّةَ» في مائة وخمسين ألفًا من جنوده، وفتح المدينة التي عزت على الفاتحين منذ عهد «الإسكندر المقدوني» إلى يومه.
فكانت وقعة عمورية غرة في جبين الدهر، ودرة في تاريخ الإسلام، وتاجًا زان مفرق المعتصم ().
في شهر رمضان سنة أربعمائة واثنتين وتسعين للهجرة رَوَّعَ العالمَ الإسلاميَّ من أقصاه إلى أقصاه احتلالُ الصليبيين لأولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله r؛ فكان يومًا حزينًا من أيام المسلمين لا تذهب الأيام بمرارته، ولا تمحو الأحداث الجسام ذكراه.
وبعد نيف وتسعين عامًا والمسجد الأقصى أسير في أيدي الصليبيين جاء القائد المسلم صلاح الدين، الذي أمضى ربع قرن من حياته لم يظله سقف إلا قليلاً، وإنما كان مسكنه الدائم إما صهوة جواد، وإما خيمة تضرب له في العراء.
القائد الذي تحلى بصفات البطولة، فلم تفارقه في حالي صحته ومرضه، ويومي نصره وهزيمته، وأمري عسره ويسره.
بهذه الصفات قاد صلاح الدين جند المسلمين من نصر إلى نصر، وجاء الفتح من الله جل وعلا على يده وأنزل الصليب الأكبر الذي كان منصوبًا على قبة الصخرة، ومحيت التصاوير التي كانت منقوشة على جدران المساجد، وأزيلت النواقيس من فوق مناراته، وانطلقت من فوق المنائر أصوات الأذان، وامتزجت أصوات المؤذنين بتلاوة القرآن.
وإذ تمر تلك الأحداث نضرع لله أن يكرم المسلمين بيوم آخر كيوم الفتح يمحون فيه العار، ويزيلون الشنار، ويستردون القدس المسلوب، ويستنقذون الحرم المغضوب من أحفاد القردة والخنازير أعداء الإنسانية؛ وبذلك تقر عين الفاتح الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتَبَر روح القائد الثاني صلاح الدين رحمه الله ().
في صباح الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وست مائة كان يومًا مشهودًا من أيام الإسلام التي لا تنسى، أعز الله فيه دينه ودحر الطغاة والكافرين في «عين جالوت» الواقعة بين بيسان ونابلس.
التقى جيش المسلمين بقيادة القائد المظفر «قطز» وجيش التتار العرمرم الذي خرج من أطراف الصين وهب على البشرية هبوب الأعاصير فاجتاح الممالك، وأزال الدول، وأباد الجيوش، وأهلك الحرث والنسل؛ فقد استطاع في فترة وجيزة أن يستولي على الصين، وكوريا، وأن يجتاح من جهة أخرى بلغاريا، وروسيا، والمجر، وبولونيا.
وأن يخضع من جهة ثالثة تركستان، وسمرقند، وبخارى، ثم ابتلع فوق ذلك الري – تهران حاليًا، وهمذان، وبلاد الجبل، والتهم سجستان، وكرمان، وغزنة وما جاورها من بلاد الهند، حتى لم يبق على ظهر الأرض شعب إلا كان يرتجف فؤاده خوفًا منه، وينتظر أن يحين حينه على يديه.
وهؤلاء الأوغاد أنزلوا ببلاد المسلمين من الدمار ما لم ينزلوه ببلاد سواها، وأحلوها بها من الهول ما اقشعرت له جلود المؤرخين، وارتجفت لكتابته أقلامهم.
وعند بدء النزال أخذت سهام التتار تنصب على رؤوس المسلمين انصبابًا فتمزق صفوفهم، وتفرق جموعهم، وتشل حركتهم.
ولما اشتد على المسلمين الكرب أمرهم السلطان القائد بالهجوم على عدو الله وعدوهم فتصافحت السيوف مع السيوف، واستحر القتل بين الفريقين واستبسل كل منهما غاية الاستبسال.
ولما رأى الملك المظفر شدة بأس عدوه، ووفرة عدده، وكثرة عدته خلع خوذته عن رأسه، وألقى بها على الأرض، وردد بصوته الأجش قولته المشهورة: واَإسْلامَاهُ ... واَإسْلامَاهُ.
فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم أفئدتهم بالحمية للإسلام، فانقضوا على عدوهم انقضاض الشهب، وما زالوا يناضلونه حتى خلخلوا صفوفه المتراصة، وأوغلوا في جموعه المحتشدة، فألقى الله الوهن في نفوس التتار، وقذف في قلوبهم الرعب، وما هي إلا ساعة حتى بدأ العدو يتأخر، ثم طفق يتقهقر، ثم ولى الدبر، فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم ومزقوهم شر ممزق؛ فلقد كان يوم (عين جالوت) أول يوم يُغلب فيه الغالبون، يُقهر فيه القاهرون، ثم لم تقم للتتار قائمة بعد ذلك.
وكان المملوك «سيف الدين قطز» أول رجل أذل «هولاكو» الجبار ().
في رمضان سنة ست مائة وست وستين وفي اليوم الرابع عشر منه، شهد تاريخ الإسلام يومًا من أعظم أيامه وفتحًا من أجل فتوحه، أعز الله فيه المسلمين بعد هوان، وأعلى فيه رايات الإسلام، ورفع أعلام القرآن، وكان صاحب هذا الفتح العظيم بطلاً من أبطال المسلمين وقائدًا من قوادهم الغر الميامين.
بطل ظل على مدى سبعة عشر عامًا يُشَرَّقُ في أرض المسلمين وَيُغَرَّبُ، يُنازلُ التتار الوثنيين، ويقارع الصليبيين الباغين؛ فما فل له سيف، ولا لانت له قناة ولا انكسر في موقعة، حتى ألقى الله مهابته ورعبه في قلوب أعدائه وأعداء الله، هذا البطل هو الملك الظاهر بيبرس.
أما يومه الباقي على وجه الدهر فهو يوم فتح «أنطاكية»()، واستنقاذها من أيدي الصليبيين ().
وأحداث رمضان كثيرة لا تحصى، ولكنا أتينا بنماذج للتذكرة ولا أظنها تغيب عن بال المسلم، وخلاصة هذه الأحداث هي:
كون الإسلام وما يزال وسيظل إن شاء الله عدة النصر للمسلمين، وسبيل العزة للمؤمنين.
وصدق الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ولو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
7:13 ص
مناسبات
.