روحانية الحج
عبد الرحمن البر/قبسات أون لاين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه. اللهم اجعل عملنا كله صالحًا خالصًا متقبلاً، ولا تجعل للشيطان في عملنا حظًّا ولا نصيبًا، ووفقنا لما تحب وترضى، وارزقنا خير الآخرة والأولى.
أيها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الكريمات، حجاجَ بيت الله، الذين أنابوا إلى ربِّهم، واستجابوا لنداء الخليلِ إبراهيمَ حين أذَّن بأمر ربِّه في الناس بالحج، وانطلقوا من ديارهم، وتخلَّصوا من معوقات الدنيا، وهُرِعوا إلى الله وحده، بعد أن تلقَّوا الدعوةَ منه؛ الدعوةَ التي آثرهم الله بها، وألقاها إلى قلوبهم وأفئدتهم، فتحركوا شوقًا ومحبةً واستجابةً لأمر الله، فانبعثوا مُلَبِّين دعوةَ خالقهم وسيدهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛ فهذا هو موسم الحج قد أظلنا بظلال الأمن والأمان من الأرض المباركة التي أَهْدَتْ إلى العالم أعظمَ رسالة وأصدقَ راية، وفيها تَعْذُبُ المناجاة، وتحلو الطاعة، ويسري نورُ الإيمان بين الجوانح، ويشعر المسلم أنه فوق عالَم البشر، يُجَنِّح مع الملائكة الكرام؛ فالذنبُ مغفورٌ، والسعيُ مشكورٌ، وكلُّ خطوة يخطوها الحاجُّ تكتب له ملائكةُ الرحمة بها حسنةً، وتضع عنه بها سيئة.
أيها الحجاجُ الكرام، ها أنتم تلبّون راجين، وتسعَوْن محبين وطائعين، وتطوفون مذعنين ومشتاقين، وترمون مهلِّلين، وتصعدون وتهبطون مكبِّرين؛ فيجيب الحق -جل وعلا- كلاًّ منكم: لبيك عبدي وسعديك، والخير بين يديك.
إخواني الكرام، إن الحجَّ تهذيبٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، وغسلٌ لأدران الشر، وهو تلاقٍ اجتماعيٌّ، وتعارفٌ إسلاميٌّ، واجتماع ٌللنفوس المؤمنة على مودةٍ ورحمةٍ ورُوحانيةٍ في ظل البيت المقدس، وفي الأماكن المطهرة.
فلنتجول معًا أحبتي الكرام مع رُوحانية الحج في سائر أعماله؛ لنرتشف عشرًا من نسمات الحج الروحانية في هذه الشعائر العظيمة، آملين في وجه الله الكريم أن يجعلنا من القبولين:
أولاً: الاستعداد للحج:
يبدأ الاستعداد للحج بالتوبة النصوح، وتجديد النية والإخلاص لله رب العالمين، فكلُّ ذنبٍ أو مظلمةٍ هي غريمٌ حاضرٌ متعلقٌ بتلابيب قاصد الحج، ينادي عليه ويقول: إلى أين تتوجه؟ أتقصد بيتَ ملك الملوك وأنت مضيعٌ أمرَه في منزلك هذا ومستهينٌ به ومهملٌ له؟ أَوَلا تستحيي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك؟!
فإن كنت راغبًا في قبول زيارتك فنفّذ أوامر الله ، ورُدَّ المظالِمَ، وتُبْ إليه أولاً من جميع المعاصي، واقطع عَلاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك؛ لتكون متوجهًا إليه بوجه قلبك، كما أنك متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك. فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصبُ والشقاءُ، وآخرًا إلا الطردُ والرد. ومن ذا الذي يرضى لنفسه بهذا الخسران؟!
ثم احرصوا -أيها الأحبة- على آداب الرفقة والسفر، من بذل المعروف والإحسان، والكف عن الإساءة، وحسن الصحبة، وترك الرفث والفسوق والجدال، والتواضع للرفقاء، وخدمة الإخوان، وحمل الضعفاء، والتغافل عن الزلات والهفوات، والحرص على سلامة القلب واللسان، فقد قيل: أفضلُ الحجاج: أخلصهم نيةً، وأزكاهم نفقةً، وأحسنهم يقينًا.
واذكروا أنكم في سفركم هذا كالمجاهدين في سبيل الله، فقد قال رسول الله : "وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر". وما ينبغي لوفد الله تعالى إلا الكمال في كل المحاسن، فحسِّنوا أخلاقكم، واصبروا على ما تلقون من المشقات والشدائد، وما تواجهون من المصاعب، واحتسبوا عند الله ذلك كله، والله يتولى أمركم وهو يتولى الصالحين. جعلنا الله وإياكم من التائبين المقبولين الفائزين.
ثانيًا: الإحرام:
إن الروحانية تبدأ فتسيطر على مشاعر وأحاسيس مريد الحج عندما يبتدئ بالإحرام الذي هو الركن الأول من أركان الحج، إذ ينوي الإنسانُ الحج في ميقاته، وميقات الحج: هو المكان الذي يُحرِم منه الحاج، ويلبس ثيابَ الإحرام فيه، وكل جهةٍ من الجهات الأربع للحرم لها ميقات، أي مكان معلوم يبدأ الحجاج الإحرام منه، ولا يصح لقاصد الحج أن يَمُرَّ من ميقات من هذه المواقيت المكانية للحج بغير إحرام، وكأنَّ هذه الأماكنَ التي تحيطُ بالحرمِ المقدَّس إحاطةَ هالة الشمس بها هي حدودٌ بين متاع الدنيا وأعراضها؛ وحياة الروح ونعيمها، فهي حدود للمكان الذي جعله الله تعالى لضيافته الروحية، يستضيف فيه عبادَه المؤمنين الذين جاءوا إليه من مشارق الأرض ومغاربها، نازعين من قلوبهم وأجسامهم كلَّ مظاهر المادية؛ ليتجرَّدوا بأرواحهم وينالوا شرف الضيافة على تلك المائدة الربانية، وذلك الغذاء الروحي.
إن عبارات النبي في نيته الإحرام، تعلمنا كيف نتخلص من أهواء الدنيا، ومن الطبائع الأرضية في نفوسنا، لنتعلق بأسباب السماء، فقد كان يقول في إحرامه: "اللهم حجةً لا رياءَ فيها ولا سُمْعَة". ويقول أيضًا: "لبيك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا" ويكرر ذلك؛ لنتعلم منه كيف نخلص أنفسنا من الرياء والسمعة. والرياءُ آفةُ العبادة، وهو الذي يبعدها عن الدرجات العالية في الروحانية، وهو في ذاته الشركُ الخفيُّ؛ ولذا قال : "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"
بهذا الإحرام تدخل أيها الحاجُ المؤمنُ في محيط الرُّوح، وفي متسع الضيافة؛ ولذلك وجب عليك أن تعلن أنك قد دخلتَ في هذا الوادي المقدس، وادي الرُّوح، وادي الضيافة الإلهية، ولذلك تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
بهذا النداء الذي هو إعلان الحج، أو مظهر الروحانية فيه، يكون الشخص قد دخل في مقام الضيافة، وانتقل من دركات الأرض إلى المنازل الرُّوحية، وكأنه بِحَجِّه قد أجاب داعيَ الله تعالى إذ دعاه إلى تلك المائدة المقدسة؛ وإنه ليكرر تلك التلبيةَ في كل مرتفع وكل منخفض؛ ليكون في تذكرٍ دائمٍ، ولكيلا ينسى أنه في الحضرة الإلهية، وفي الضيافة الرحمانية.
إخواني الأحبة قاصدي بيت الله الحرام، ينبغي أن يتذكر الحاج أنه إذ يحل في تلك الضيافة الرُّوحية فإنه يجب أن يترك مظاهرَ الزينة وما اختُصَّت به الحياةُ الأرضيةُ؛ فقبل أن يعقد النية والإحرام: يغتسلُ ويتطهرُ ويستكملُ أسبابَ النظافة، ثم يصلي ركعتين، ثم يحرمُ بالتلبية مع بداية انطلاقه من الميقات، فإذا أحرم فلا يتطيب ولا يتزين ولا يقص شعره ولا يحلقه، وذلك لأنه في حال تجرد رُوحي، فلا يصح أن يُشغَل عنه بمظاهر مادية؛ ولأن حياة الرُّوح توجب المساواة؛ إذ الجميع سواء أمام عظمة الخالق، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، ولا لغني على فقير.
كما ينبغي أن يتذكر بملابس الإحرام كفنَه الذي يلقى به ربه الكريم، وما أشبه الثوبين والرحلتين، إلا أن الرحلة اليوم هي رحلة للعمل، وهي غدًا رحلة لنيل ثواب العمل، وعلى قدر الصدق والإخلاص في الرحلة الأولى يكون الأجر المدخر في الرحلة الأخرى. الرحلة اليوم هي إجابة طوعية لنداء الخليل إبراهيم u حين أذَّن في الناس بالحج كما أمره ربه، أما الرحلة غدًا فهي استجابة قهرية لنداء إسرافيل حين يؤمر بأن ينفخ في الصور.
ومما ينبغي أن لا يفوتك أيها الأخ الكريم، أن تتذكر دوامًا أنك بالإحرام قد دخلت في عبادة الحج، فأكثر من التلبية وجدِّدْها عند اجتماع الناس، وعند كل صعود، وعند كل هبوط، وعند كل ركوب، وعند كل نزول، رافعًا بها صوتك بصورة معتدلة، فإنك لا تنادي أصمَّ ولا غائبًا، وإنما تنادي سميعًا بصيرًا، وأكثر مع التلبية من التكبير عند كل مرتفع، والتسبيح عند كل منخفض، فتلك هي سنة النبي .
فليتذكر كلُّ حاج هذه المعانيَ عند الإحرام؛ حتى يبدأ النسك على الوجه الأكمل، وعلى النحو الْمُرضي إن شاء الله. نسأل الله أن يجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين.
ثالثًا: عند الوصول إلى مكة:
إن الحاج ليرى في طرقات البلد الحرام في هذه الأيام المباركة عجبًا، فحيثما قلبتَ ناظريْك أيها الحاج الكريم في أرجاء البلد الحرام رأيتَ ثَمَّ موكبًا من مواكب الله، وقافلةً من قوافل الإيمان، وجيشًا من جيوش الحق، وجندًا من جنود اليقين، هديرُهم تكبيرٌ، وهتافُهم تسبيحٌ، ونداؤُهم تلبيةٌ، ودعاؤُهم تهليلٌ، مشيُهم عبادةٌ، وزحفُهم صلاةٌ، وسفرُهم هجرةٌ إلى ربهم، وغايتُهم مغفرةٌ من الله ورضوانٌ، تراهم في حشدهم صورةً متكاملةً متناسقةً في إطار نوراني على اختلاف الأجناس، وتباين اللغات وتغاير الأوطان.
اجتمعوا على كلمة الله تعالى، والْتأموا في بيت الله، والتحموا أمام الله في رحمة وعطف وحنان، شعار كل فرد منهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} [الحجر: 88]، مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص، تركوا البلاد والديار والأهل والأولاد، والتجارات والأعمال، لم تسُقْهم قوةٌ قاهرةٌ، ولم تجبرهم قوانينُ دنيوية، بل جاءوا مندفعين بدافع من أعماقهم، منبثق من وجدانهم، نابع من فيض إيمانهم ومعين يقينهم، قطعوا الفيافي والقفار، واجتازوا الجبال والوديان، وعبروا البحار والأنهار، وطاروا على متن الهواء، قاصدين بيت الله الحرام، يعيشون في رحابه، وينعمون بقدسيته، متشرفين بضيافته، متلمسين لرحمته، مستهدفين المغفرة، مستمطرين الرضوان، كما قال ربهم: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
فلتتذكر أيها الحاج الكريم، أيتها الحاجة الكريمة أن هذا البلد الأمين قد جعلها الله حرمًا آمنًا، لا يُنَفَّرُ طيرُها، ولا يُقْطَع شجرُها، ولا يُخَوَّف ساكنُها ولا نزيلُها، ولا يُصَاد صيدُها، فنَزِيلُها لا بدَّ أن يكون في سلامٍ مع نفسه ومع الآخرين من الناس والشجر والدواب والطير، فمَنْ أحدث فيها حدثًا أو فعل فيها محرمًا أو آوى فيها مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.
إن نزول هذا البلد المقدس تدريب عظيم على ممارسة السلم الذي هو شعار الإسلام العظيم، فعيشوا أيها الحجاج هذه الأيام الكريمة في واحة الأمن والسلام، باذلين المعروف، صابرين على المكروه، آمنين في أنفسكم، مسالمين لغيركم، وإذا دعتك نفسك أيها الحاج إلى محرم أو إلى اعتداء على غيرك فاذكر أن الله تعالى يعاقب في هذا البلد الحرام على مجرد الإرادة للشر، فضلاً عن فعل الشر نفسه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وإذا كنتم معاشر الأحبة تحجون إلى حرم الله الآمن؛ فلتتفكروا في منازل الوحي ومدارك النبوة والعهد الأول للإسلام، ولتذكروا كيف كان صبره في الشدائد، وكيف كان دفعه للمكايد، وكيف كان قويًّا في إيمانه، وهو الذي لم يكن له ناصر إلا الله بين قومٍ توافرت لديهم أسباب الغلب المادي، وظنوا أنهم مانعتهم أموالهم وأولادهم وقوتهم من أمر الله، فجعل الله عاقبتهم خسرانًا وبوارًا، وجعل عاقبة صبر نبيه وتمسكه بدعوته نصرًا وفوزًا مبينًا.
وفي ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فيعرف كيف يكون الاعتزاز بالله هو الملجأَ عندما تتكاثر عليه الأعداء، ويتضافر عليه الأقوياء، وتكثر الضراء، وتقل السراء، وتتزلزل القلوب إلا من عصم ربك.
ثم اذكر أخي الحاج أختي الحاجة وأنتما تسيران في طرقات البلد الحرام آمنين مطمئنين، اذكرا البلدَ المباركَ الذي بارك الله حوله، بيتَ المقدس، القدسَ الشريف الذي يشكو إلى ربه ظلمَ اليهود الظالمين، وعجزَ المسلمين المتخاذلين، واذكروا كيف يعيش أهله من إخوانكم تحت سياط القهر والخوف، فتضرعوا إلى الله في إخلاصٍ وإخباتٍ وخشوعٍ بالدعاء أن يفك الله أسْرَ هذا البلد المبارك، ليلحق بأخويه مكة والمدينة، وأن يكتبَ لأهله ونازليه الأمنَ في ظل الإسلام الحنيف، وأن يحفظه وأن يثبت المجاهدين من أهله ويربط على قلوبهم حتى يتم لهم النصر الموعود إن شاء الله.
نسأل الله العظيم أن يبلغنا حرمه الآمن أعزةً مطمئنين، وأن يكتب لنا الأمن في الدنيا ويوم الدين. ونستكمل في الجزء القادم إن شاء الله تعالى
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
5:57 ص
مناسبات
.