تفجير كنيسة الإسكندرية.. وقفة هادئة
مصطفى الأنصاري
شعرنا بعميق الأسف تجاه ما حاق بمصرنا من جرّاء الانفجار الآثم الذي وقع في الساعات الأولى من صباح يوم السبت الموافق الأول من يناير عام 2011م أمام كنيسة "القديسين" بمدينة الإسكندرية؛ مما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا بين قتيل وجريح.
ومما ضاعف مشاعر الحزن أن نفس الكنيسة قد شهدت اعتداء سابق في عام 2006م، حين دخلها شخص وبدأ يطعن المصلين، فأسقط عددًا منهم بين قتيل وجريح..
أمَّا عن حادثة الأول من يناير والتي استهللنا بها عامنا الحالي، فقد جاء في البيان الأوّلي الصادر عن وزارة الداخلية المصرية أن المستشفيات استقبلت عدد 7 حالات وفاة و24 مصابًا، منهم 8 مسلمين وضابطا شرطة و3 من أفراد أمن الخدمة المعينة لتأمين الكنيسة، كما وقعت تلفيات بمبنى الكنيسة وكذا بالمسجد المقابل لها".
ثم ارتفع العدد بعد أيام ليصل إلى 23 قتيلاً، وأكثر من تسعين مصابًا.
تفجير كنيسة الإسكندرية في وسائل الإعلام
وبالطبع لقي الحادث اهتمامًا واسعًا من وسائل الإعلام العربية والعالمية التي حرصت على تغطية تداعياته، فقد نشر موقع الجزيرة نت بتاريخ 3 يناير تحت عنوان "صدام ومظاهرات في الإسكندرية" قيام المئات من أعضاء هيئة التدريس وطلاب جامعة الإسكندرية بتنظيم مسيرة للتنديد بحادث كنيسة القديسين، شارك فيها رئيس الجامعة وعمداء وأساتذة وطلاب 17 كلية.
كما أصدرت الجامعة واتحاد الطلاب بيانين شجبا فيهما "الاعتداء الإجرامي" الذي استهدف أبناء الشعب المصري مسيحيين ومسلمين، إلى جانب توجيه الدعوة إلى أبناء الوطن لتوحيد الجهود من أجل النهوض بمصر.
كذلك نظم المئات من أعضاء لجنة التنسيق بين النقابات المهنية بمحافظة الإسكندرية مظاهرة أخرى وسط المدينة، رافعين لافتات مكتوبًا عليها "عاش الهلال مع الصليب"، "لا للإرهاب"، "معًا سنقاوم الإرهاب"، "الإرهاب لا دين له ولا وطن"، مرددين هتافات "عاشت مصر آمنة" و"لا للإرهاب".
ومن ناحية أخرى تواصلت المناوشات على فترات متقطعة، بين قوات الأمن ومئات من المسيحيين الغاضبين الذين ردُّوا على محاولات تفريقهم بإلقاء الحجارة على قوات الأمن التي فرقت العديد من الاحتجاجات المسيحية الغاضبة في الشوارع المحيطة بالكنيسة باستخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع، وقامت بإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى الكنيسة، وفرضت طوقا أمنيًّا على المنطقة.
واشتبكت قوات مكافحة الشغب مع متظاهرين قذفوها بالحجارة والزجاجات، مطالبين بالقصاص لضحايا الحادث وإقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، ومنددين بالتقصير الأمني في حماية الكنائس، وردَّد المتظاهرون هتافات "نموت نموت ويحيا الصليب"، و"حق القبطي راح فين".
أمَّا في القاهرة فأصيب 25 من أفراد الشرطة المصرية بينهم خمسة ضباط، إضافة إلى 15 من المسيحيين في مظاهرات شرقي القاهرة؛ وذلك نتيجة قيام المسيحيين الذين تظاهروا أمام كاتدرائية العباسية برشقهم بالحجارة وزجاجات المياه.
كما تعرض بعضهم لموكب شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية ووزير الأوقاف الذين زاروا الكاتدرائية؛ لتقديم العزاء للبابا شنودة الثالث!!
وقد قال شيخ الأزهر أحمد الطيب: إن "القيادات الإسلامية لم تأت للاعتذار لأنَّ من ماتوا هم أهلنا، بل جئنا لنتصدى للإرهاب الذي يستهدف ضرب مصر وتحويلها إلى عراق آخر".
كذلك انتقد شيخ الأزهر دعوة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر، التي طالب فيها بحماية المسيحيين في مصر، واعتبرها تدخلاً غير مقبول في شئون مصر، كما أعلن إنشاء لجنة تحت مسمى بيت العائلة المصرية تضم قيادات الأزهر والكنيسة.
ونذكر من أمثلة وسائل الإعلام العالمية التي حرصت على متابعة تطورات الحادث وكالة روسيا اليوم التي نشرت في يوم السبت 1 يناير خبرًا عن الحادث تحت عنوان "21 قتيلاً وعشرات الجرحى في انفجار أمام كنيسة في مصر"، وأوردت فيه دعوة الرئيس المصري حسني مبارك للشعب المصري إلى الوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة الإرهاب، وإعرابه عن خالص عزائه ومواساته لأسر الضحايا، وتأكيد محافظ الإسكندرية أن الضحايا هم من المسلمين والمسيحيين معًا، واستنكاره لخطة شقّ وحدة الشعب المصري، إلى جانب البيان الذي أصدرته مشيخة الأزهر بإدانة الهجوم على الكنيسة، وبدعوة المصريين للاعتصام بوحدتهم
كذلك فقد تصدّر الخبر الصفحات الأولى من الصحف العالمية مثل صحيفة "لوس أنجلوس تايم"، التي جاء الخبر في صدر صفحتها الافتتاحية بعنوان "تفجير الكنيسة القبطية في مصر هو أحدث هجوم على المسيحيين في الشرق الأوسط"، وهو عنوان خبيث يحمل في طياته التأكيد على تعرُّض نصارى الشرق ومنهم المصريون للاضطهاد!!
تفجير كنيسة الإسكندرية بأقلام المحللين
وكذلك تصدى عددٌ من المحللين والكُتّاب لحادث تفجير كنيسة القديسين في محاولة لتهدئة الرأي العام المصري، والتخفيف من حدّة الغضب والانفعال لدى نصارى مصر، الذي تبدّى في ردود أفعالهم التي أعقبت الحادث؛ فوصفه بعض الكتاب "بالغضب المشروع"، ولكنه في نفس الوقت حذّر من التجاوزات غير المحسوبة التي قد تؤدي إلى اشتعال نيران الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن المصري الواحد.
وفي نفس الوقت قام أحد كبار المحللين بتوضيح بعض المحاذير التي يتعين الانتباه إليها في تناول هذه الحادثة الأليمة، وفي مقدمتها:
- إننا ينبغي أن نضع الوطن نصب أعيننا، بحيث لا نتعامل مع ما جرى من منظور طائفي؛ فاستهداف الأقباط هو بالدرجة الأولى عدوان على الوطن ينبغي أن يرد بمنتهى الحزم والشدة، ذلك أن كل إنسان في مصر له حقوقه وكرامته التي تعد صيانتها من أوجب الواجبات. ليس لأنه قبطي أو مسلم، ولكن لأنه مواطن يتساوى مع غيره من المواطنين في الحقوق والواجبات.
- إننا ينبغي أن نعطى هذه الجريمة حجمها الحقيقي؛ فهي ليست عدوانًا من المسلمين على الأقباط، ولكنها جريمة اتهم فيها نفر من المسلمين. والذين يوجهون الاتهام إلى عموم المسلمين بسبب ما جرى في الإسكندرية، يغذُّون الفتنة ويؤجِّجون نارها. وهم لا يختلفون كثيرًا عن الإدارة الأمريكية التي وضعت كل المسلمين في قفص الاتهام بعد أحداث 11 سبتمبر، وكانت النتيجة كما نرى، وهو ما يسوغ لنا أن نعمم الإدانة والاستنكار على أولئك النفر من الغاضبين الأقباط، الذين انفعلوا بما جرى فرشقوا مسجدًا قريبًا، وخرجوا في مظاهرات ضد المسلمين في الإسكندرية.
- إننا ينبغي ألا نستدرج للوقوع في فخ الكارهين والمتعصبين، الذين ينتهزون كل فرصة للتنديد بالمسلمين والتحريض على الإسلام. وهم الذين سبق أن استثمروا أجواء ما سُمِّي بالحملة ضد الإرهاب لتحقيق مرادهم ومطاردة التدين في كافة مظاهره ومظانّه. ولست أشك في أن الذين ارتكبوا جريمة الإسكندرية وفّروا لهؤلاء ذريعة قوية للاستمرار في مسعاهم. وهو الجهد الذي أثبتت التجربة أنه يشوه صورة الإسلام حقًّا، لكنه يستفز جماهير المتدينين، ويغذِّي تيارات المتطرفين بما يجعلهم أكثر نقمة على المجتمع وأشد خصومة له.
- كما أن الغمز في تنامي الظاهرة الدينية بين المسلمين، وتحميلها المسئولية عن وقوع أمثال الفاجعة التي نحن بصددها، يعدُّ نوعًا من الابتزاز الخبيث الذي يدعوهم إلى التخلي عن عقائدهم، وهو ما شهدناه مؤخرًا في تنديد آخرين بمظاهر التدين المنتشرة، وفى الإلحاح على تقديم فكرة الدولة المدنية، بحسبانها نقيضًا للتدين ودعوة إلى الخلاص من تبعاته والتحلل من التزاماته!!
وقفة هادئة مع حادث تفجير كنيسة الإسكندرية
بداية نود التأكيد على أن المستفيد الأول من هذه الجريمة النكراء -وفي هذا التوقيت بالذات- لا يعيش بيننا على أرض وطننا المصري الذي نفتخر به، حتى وإن كان له بعض الأذناب في داخل مصر؛ ولذا لن نجعل هذه الوقفة في البحث عن المخطِّط الحقيقي لهذا الحادث والإجابة عن السؤال: هل هو الموساد الصهيوني أم تنظيم القاعدة أم كلاهما أم غيرهما.
فمن نوجه له حديثنا في هذه الوقفة هو أبناء الشعب المصري من مسلمين ونصارى، للتأكيد على هذه الحقيقة وهي أن الشعب المصري يتكوّن من مسلمين ونصارى، ولن يستطيع أحدهما التخلص من الآخر..
هذا أمر واقع..
وتكفي نظرة بسيطة على التوزيع الديموجرافي -السكاني- لأبناء الشعب المصري لترسيخ هذه الحقيقة..
بل إنه كلما أمعن المرء في التفكير يجد أن تغيير هذا الأمر الواقع يعدُّ ضربًا من الخيال..
ومن هنا كان الوقوف على أسباب هذا الحادث -وما سبقه من حوادث ذات بُعدٍ طائفي حدثت في مصر- يعد شأنًا مصريًّا داخليًّا بحتًا..
وأرجو من هذا التأكيد الرد على أي محاولة "هوجاء" صدرت، سواء عن انفعال أو عن وعي من بعض نصارى مصر تطلب الحماية الأجنبية لما يتعرّضوا له من اضطهاد وتضييق في مصر!!
وليس أبلغ في الرد على هذا الادعاء "الكاذب" مما صرّح به فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي- رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين- ووصفه الحديث عن اضطهاد المسيحيين في مصر بأنه من باب التهويل، وأن ما يتعرضون له هو بعض المشاكل، مشيرًا إلى أن مسيحيي مصر يملكون ثلث ثروتها.
كما لفت الشيخ القرضاوي إلى أن هناك العديد من الملفات التي تحتاج للحديث بين الطرفين، خاصة وأن هناك بعض الأمور تثير غضب المسلمين، وأشار إلى قضية وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة قائلاً: "من هذه الأمور أن تعلن قبطية إسلامها فيحال بينها وبين الدين الإسلامي من خلال حبسها في مكانٍ يشبه المنفى، على الرغم من أنها لم تكره على دخول الدين الإسلامي بل أسلمت وهي راضية، فلماذا نرغمها على العودة إلى دينها؟! فمثل تجاهل الحديث في مثل هذه الأمور يؤدي إلى أن تأكل النار الهشيم".
وقال القرضاوي: إن التعايش بين الطرفين يتحقق عندما يدرك كل من الطرفين مسئوليته اتجاه الآخر واتجاه الوطن..
ولم ينس العلامة القرضاوي أن يوضح أن المسئولية لتحقيق هذا التعايش تقع على المسلمين بشكل أكبر لأنهم الأكثرية وعليهم احتضان الأقلية، وكذلك مسئولية أهل الحكمة والمعرفة، فعلينا أن نجلس بعضنا مع بعض؛ لأن البعد لا يؤدي إلى معرفة حقيقة الآخر نحو بعض القضايا.
ونذكّر هنا بما قاله "الأنبا موسى" -أسقف الشباب في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وهو من عقلاء وحكماء هذه الكنيسة-: إن الأقباط جزء مهم من نسيج الحياة المصرية.. فهم أطباء وصيادلة ومهندسون، وغيرها من المهن، ونسبتهم في رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية في مصر..."
وعلى النقيض من كلام الأنبا موسى نجد من يزعمون تعرضهم للاضطهاد، يتذرعون بعدم وجود قانون موحَّد ينظم عمليات بناء دور العبادة بما يوقع عليهم الظلم والغبن!!
في نفس الوقت الذي توجد فيه دراسات تفيد بأن دور العبادة الخاصة بالنصارى في مصر ليست قليلة كما يدعي البعض، بل إنها تزيد عن حاجة الأقباط! وهذا ما سيظهر جليًّا في حالة إقرار قانون دور العبادة الموحد الذي يطالب به الأقباط على الدوام!
ومع ذلك يثور النصارى إذا رُفض لهم طلب ببناء كنيسة ويخرجون إلى الشوارع مهددين ومروّعين للمارَّة!! ويقتحمون مبنى محافظة الجيزة في شهر نوفمبر الماضي!!
ويرى المسلمون -الأغلبية- كيف تعاملت معهم الحكومة بمنتهى التروِّي والأناة، والدليل على ذلك عدم وجود أي محتجز لدى السلطات المصرية على ذمة هذه القضية في يومنا هذا!!
في الوقت الذي قُتل فيه شاب مصري مسلم ينتمي "للأغلبية"، وبدم بارد أثناء التحقيق معه في حادث تفجير الكنيسة!!
وفي نفس الوقت الذي لم تُنس فيه إساءات من قيادات كبرى في الكنيسة المصرية مسّت أغلى المقدسات الإسلامية، لا سيّما كلام الأنبا بيشوي عن تحريف المصحف.
وليس معنى هذا موافقتنا على ما حاق بإخواننا من النصارى في الإسكندرية، ولكنه أيضًا دعوة للتأمل ستعود فوائدها على المسلمين والنصارى في مصر على حد سواء..
فما هو حجم الاستفادة التي ستعود على نصارى مصر إذا استمر تعامل قياداتهم مع أي جريمة تلحق بهم على أنها أداة للضغط على النظام المصري، وابتزازه إلى أقصى مدى، والتهديد باللجوء إلى الاستعانة بالخارج الذي بدأ يستجيب لتلك النداءات..؟!!
إن هذا الأسلوب وإن أتى بمكاسب وقتية فإنه سيتسبب في خسارة نصارى مصر مشاعر المودة والرحمة من إخوانهم المسلمين، هذه المشاعر التي تعدُّ هي الدرع الأكيد للحماية من أي كيدٍ، حيث إن أمن المجتمع مسئولية المجتمع كله..
وختامًا..
كلمة إلى إخواني المسلمين..
إذا فهم مسلمٌ ما أن التزامه الديني بالإسلام يقوده إلى مقاطعة جاره النصراني، وعدم إلقاء التحية عليه، أو مبادرته بها، وعدم تهنئته في العيد، أو عدم مواساته عند الأحزان أو زيارته، ففي رأيي أن هذا الفهم يجب أن يصحَّح، وعلى كل التيارات الإسلامية وعلى الأزهر أن يقود حملة لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسربت إلى قطاعات عريضة من الملتزمين دينيًّا..
{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].
ولنتدبر معًا الآية الكريمة {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
هذا على المستوى الشعبي..
أمَّا على مستوى الدولة المصرية، فلن تقوم الدولة المصرية بواجبها تجاه هذا الملف الخطير إلا إذا وضعته في مكانه الذي يستحقه بين أولوياتها؛ حيث إنه لا يقل أهمية وخطورة عن ملف العلاقات المصرية مع دول حوض النيل -على سبيل المثال- أو كيفية مواجهة العدو الصهيوني المتربص بالتراب الوطني المصري على الحدود الشمالية الشرقية!!
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
5:00 م
قضايا معاصرة
.