إسلام هوازن
مجيء وفد هوازن لرسول الله
انتهت قصة الغنائم على خير، فألف النبي قلوب البعض، واسترضى آخرين، وحلت كل الأزمات، وكانت هذه الأيام من أسعد أيام المسلمين في كل السيرة النبوية، وبعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها ورضي كل فريق بما أخذ سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة، أو من الخمس الذي وُهب للبعض، حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقعة، فقد جاء وفد من قبيلة هَوازِن، أو تحديدًا من بطون بني نصر وبني سعد، وكل بطون هوازن الأخرى باستثناء قبيلة ثقيف، وجاءوا جميعًا إلى وادي الجعرانة، ولا أحد يدري أجاءوا للتهديد والوعيد، أم للمفاوضات، أم لتحديد موعد للقتال والثأر؟
لم يأتِ الوفد المكون من أربعة عشر رجلاً لأي سبب من هذه الأسباب، إنما جاء خصيصى لإعلان الإسلام أمام النبي ، وكان الوفد يمثل كل بطون هوازن ما عدا ثقيفًا، وذلك بعد أقل من شهرين من حرب حُنَيْن الهائلة، بعد أن فقدوا كل شيء وخسروا نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأنعامهم، خسروا حاضرهم وسيخسرون أيضًا مستقبلهم إن هم ظلوا على الشرك، وكما ذكرنا من قبل أنهم قد فروا إلى الطائف مع ثقيف وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان من الممكن أن يفقدوا ديارهم ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، وكان موقفهم في غاية الصعوبة، وفكروا في عودتهم إلى رسول الله ، فقد يقبل منهم إسلامهم، ويعيد إليهم بعض الممتلكات، وواضح أنهم لم يدخلوا في الإسلام رغبة فيه، لكن كما تعودنا أن من يدخل الإسلام يحبه بعد فترة من دخوله قد تقصر أو تطول، لكن في النهاية بعد أن يعيشوا الإسلام يشعروا بقيمته.
وأعلن وفد هوازن الإسلام أمام النبي وقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا مَنّ الله عليك.
ثم قام زهير بن صرد من بني سعد بن بكر، وهم الذين أرضعوا رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك، ولو أنا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغساني، أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه، وأنت خير المكفولين.
ثم قال:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ *** فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
الرسول يرد السبي إلى هوازن
وكان الموقف في غاية الحرج، وها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، ويتضح أنهم ما أتوا حبًّا في الإسلام، فقد جاءوا ليستردوا بعض ما ذهب منهم، ولم يعد أمامهم من سبيل إلا أن يسلموا، فيستردوا شيئًا من ممتلكاتهم، وتحتمل ردتهم إن لم يستردوا نساءهم وأبناءهم، وكان النبي قد قسم كل شيء في الغنائم على الجيش، فأربعة أخماس الغنائم قسمت على أفراد الجيش العام، وقسم الخمس الباقي على سادة القادة والعظماء، وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فقد أعطى النبي هذه العطايا ليتألف بها الناس، ولو أخذ النبي منهم ما أعطاه لهم لارتدوا عن الإسلام، فهو يريد إسلام هوازن، وفي الوقت نفسه يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، فكيف الخروج من هذه الأزمة؟
وانظر إلى المنهج الإسلامي الذي رأيناه من حبيبنا لحل هذه المعضلة، فقد تحرك النبي في ثلاث خطوات رائعة:
الخطوة الأولى: حاول أن يصل مع هوازن إلى حل وسط، فليس بالإمكان أن يرجع كل شيء، ولكن لنصل إلى أكبر تنازل ممكن يقبلون به مع ثباتهم على الإسلام، فقال لهم النبي في وضوح: "أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟".
وفي رواية البخاري قال لهم النبي : "أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيُ وَإِمَّا الْمَالُ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ لِتَرْجِعُوا".
وحاول أن يلطف قلوبهم، وفي الأمر يتصرف النبي بوضوح وتعقل وواقعية، لا يندفع بعاطفته إلى أمر قد لا يقدر عليه، ولا بد من العلم أن السبي والأموال ليست مسروقة، ولا منهوبة من هوازن، وإنما هي حق للمسلمين تطلبه هوازن للتنازل عنه كرمًا منهم، فقالوا: يا رسول الله، لقد خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فرُد إلينا نساءنا وأبناءنا. ونجحت الخطوة الأولى ووصل معهم النبي إلى حل وسط.
الخطوة الثانية: إشعار هوازن أن النبي معهم قلبًا وقالبًا، وأنه متعاطف معهم إلى أقصى درجة، وسوف يضحي من أجلهم، وسيبذل قصارى جهده لاسترداد السبي من أفراد الجيش الإسلامي، أي أن النبي وضع نفسه في خندق هوازن، ولا شك أن النبي قد ثبت أقدامهم بهذا العرض، وليحقق هذه الخطوة أعلن النبي قائلاً في تجرد: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ".
وفي الوقت نفسه لا يستطيع إجبار بقية الجيش على ردّ ما معهم، ولكنه سيحاول معهم، وهنا نجد ما يسمى بواقعية العطاء عند النبي ، فهو لم يعد إلا بما يستطيع، وكان كريمًا واسع الكرم ، فقد تنازل عن نصيبه وأقنع بني عبد المطلب بالتنازل عن حقوقها، لكنه لا يعطي ما لا يملك.
الخطوة الثالثة: اتفق مع هوازن على موقف يقوم به أمام المسلمين ليقنع به الجيش المسلم بإعادة السبي إلى هوازن، وكان هذا الموقف من عند النبي ، والنبي يبذل هذا الجهد من أجل قبيلة كانت تحاربه منذ شهرين، بل كانت حريصة تمام الحرص على استئصاله هو والمؤمنين تمامًا، فقال لرجال هوازن: "فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ فَقُومُوا فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي نِسَائِنَا وَأَبْنَائِنَا. فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ".
فهو لم يتنازل عن حقه في السبي بينه وبين بني عبد المطلب سرًّا، بل يريد أن يكون ذلك الأمر في العلن؛ ليقلده بقية المسلمين، فيتنازلون عن السبي الذي ملكوه، ويعلّم وفد هوازن ألفاظًا ترقق مشاعر المسلمين: "إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله"، وهنا يقبل النبي شفاعة المسلمين، وليس من المعقول أن لا يقبل المسلمون شفاعة الرسول ، ثم يؤكد لهم النبي وفد هوازن أن يسأل بنفسه المسلمين ليردوا السبي إلى هوازن. على واقعية الطلب، وينصحهم ألاَّ يطلبوا الأموال والإبل والشياه، لكن يطلبوا فقط السبي؛ لئلاّ يصعب الأمر على المسلمين فتفشل المحاولة، وقد وعد النبي
ولاحظ مدى الرقي والتوازن والتعامل الحضاري من رسول الله ، فهو مع كونه زعيم الأمة الإسلامية ورئيس الدولة والرسول المطاع إلا أنه لا يريد أن يجبر المسلمين على رأي يرى أنه لا يجوز له تأميم ما لا يملك، وأن هذا حق المالكين الآن، وليس له دخل فيه إنما سيدخل في القضية كشفيع أو وسيط يريد الخير بصدق للطرفين، ولم تنتهِ عظمة الموقف بعدُ، فقد صلى النبي الظهر بالمسلمين وكما هو متفق عليه قام وفد هوازن مخاطبين المسلمين جميعًا، وقالوا كما نصحهم النبي تمامًا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا.
فقام قابلاً شفاعة المسلمين، وقال: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ".
موقف المسلمين من رد السبي
وقد قام النبي بما في استطاعته، أما ردّ فعل المسلمين فكان متباينًا، فقد وافق البعض، ولم يوافق البعض الآخر، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله.
وفي ذلك دليلٌ على أن المهاجرين والأنصار أخذوا نصيبهم من الغنائم، فهذا سبي أعيد من قسم مهم من أقسام الجيش. وقال الأقرع بن حابس زعيم بني تميم: ما كان لي ولبني تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا.
وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا.
فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله.
فقال: وهنتموني.
وهذا الموقف يحتاج إلى وقفة وتحليل، فقبيلتا تميم وفزارة لم يردا السبي، وردت قبيلة بني سليم السبي مخالفين رأي قائدهم عباس بن مرداس، فظهرت أمام النبي مشكلتان:
المشكلة الأولى: في رفض قبيلة تميم وفزارة في إعادة السبي، وقد تؤثر هذه المشكلة على إسلام هوازن.
المشكلة الثانية: وهي إن بدت في ظاهرها بسيطة إلا أنها كانت في غاية الأهمية عند الرسول ، وهو الخلاف الذي ظهر بين رأي العباس بن مرداس زعيم قبيلة بني سليم وبين أفراد القبيلة، وهذا يعني تعارض وعدم توافق بين الرأي المعلن للزعيم وبين جمهور القبيلة، وإذا كان الأمر قد وضح بالنسبة لقبيلة بني سليم، فإن الأمر لم يتضح بعدُ للجيش الإسلامي بما فيهم المهاجرون والأنصار وبقية القبائل.
تعامل الرسول مع المشكلة الأولى
استطاع النبي حل المشكلتين، ففي المشكلة الأولى والتي تكمن في رفض قبيلتي تميم وفزارة إعادة السبي، لم ييئس النبي من هذا الأمر، بل وضح له من هذا الأمر نظرة القبيلتين المادية البحتة، لهذا دخل النبي معهم في مساومة مادية تجارية تناسب طبيعتهم في هذه المرحلة، لم يلقِ عليهم النبي لومًا لأنهم لم يقبلوا شفاعته، فقال رسول الله : "مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنَ السَّبْيِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتَّةُ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ نُصِيبُهُ".
فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم، ولا تجد موقفًا مثيلاً مثل هذا الموقف اللهُمَّ إلا موقفه من طلقاء مكة، فقد أقر النبي بأنه سيدفع لهم ضعف السبي ست مرات من أول سبي يصيبوه، ونجد النبي يدافع عن هوازن مع أنها لم تسلم إلا من ساعة من الزمان، وقبلها كانت من ألد أعدائه ، فمن أجل الحفاظ على عقيدة قبيلة هوازن ستغرم الدولة الإسلامية قيمة ستة أضعاف السبي، ونجد أن النبي يفهم حدود النفس البشرية، ويفهم حدود العدل، ويفهم أسس القيادة، ويفهم قواعد الإدارة ويفهم طرق الحكم، ويفهم فنون التعامل مع الناس بصفة عامة.. إنه -بلا جدال- بحر لا ساحل له، قدوة لا مثيل لها، فمن المستحيل أن نحيط بعظمته ولو قضينا الأعمار في تحليل السيرة النبوية. يتفاوض مع جيشه، ولم يفرض عليهم أمرًا، فهذا السبي من حقهم، والرسول
وأمام هذا العرض المغري قبلت القبيلتان بالكامل إعادة السبي إلى هوازن، ونجح العرض النبوي في الخروج من الأزمة، وعاد السبي كله إلى هوازن إلا عجوزًا كانت في يد عيينة بن حصن الفزاري، فقد رفض إعادتها كيدًا لهوازن، ثم أعادها بعد ذلك، وبذلك حلت المشكلة الأولى وعاد جميع السبي إلى هوازن.
تعامل الرسول مع المشكلة الثانية
أما المشكلة الثانية والتي كانت بين قبيلة بني سليم وزعيمهم عباس بن مرداس، والسبي حق شخصي لكل فرد وليس حقًّا عامًّا للقبيلة، ولو اعترض فرد أو أكثر في القبيلة ما جاز لنا أن نقول: رأي الأغلبية أو الشورى تقضي بذلك فيأخذ منه السبي، بل السبي حقه وقد يتمسك به، لذلك فلا بد من موافقة شخصية من كل فرد؛ لذا وقف النبي موقفًا رائعًا، وخطب في عموم المسلمين وقال لهم -كما في رواية البخاري عن المسور بن مخرمة t-: "إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ".
فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.
وهذا منتهى العدل، وانتهت بذلك مشكلة هوازن، ودخلت في الإسلام بنفس راضية، وقد تيقنت أنها تتعامل مع رسول، وليس مع مجرد زعيم أو قائد.
إسلام زعيم هوازن
لم تقف العظمة النبوية عند إسلام هوازن، وبقي في قصة هوازن أمر عجيب يحتاج إلى أن نحمله إلى أهل الأرض جميعًا، فضلاً عن حمله للمسلمين؛ لنقول: هذا هو قدوتنا، فأي قدوة تتبعون.
فَقَد النبي في وفد هوازن مالك بن عوف الذي جهّز الجيش لاستئصال المسلمين، فسأل عنه، فقالوا: إنه في الطائف في حصون منيعة يخشى على نفسه.
فقال في روعته المعهودة: "أَخْبِرُوا مَالِكًا إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ"
فكان الهدف الأسمى في حياة النبي هداية الناس لرب العالمين، بصرف النظر عن تاريخهم وعداوتهم السابقة له وللمسلمين، وما غاب عن ذهنه هذا الهدف حتى مع هذا الرجل الخطير مالك بن عوف، فما زال يحرص على إسلامه، وما زال يحرص على هدايته، والرسول يعرف لكل رجل قدره، فمالك بن عوف النصري قوة لا يستهان بها، ولا يمكن أبدًا أن تتجاهل رجلاً استطاع أن يجمع ويحرِّك أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل، ويضحوا بكل ثرواتهم من أجل قضية ما، فوجود هذا الرجل خارج الصف أمر خطير، خاصة أنه في ثقيف، ولم يسلموا بعد، ولم ينقطع خطرهم عن المسلمين، ووجود شخصية كهذه في حصون ثقيف أمر لا تؤمن عواقبه، وهذا الرجل جمع هذه الأعداد الكبيرة من أجل قضية قبليَّة تافهة، بالقياس إلى أهداف القتال في الإسلام، فماذا لو انضم هذا القائد الخطير إلى صلب الجيش المسلم؟ وماذا سيفعل إذا أصبح مقاتلاً في سبيل الله بدلاً من قتاله في سبيل هوازن؟
لذا حرص النبي تمام الحرص على إسلامه، وفي الوقت نفسه حرص على حفظ كرامته، فرفع مكانته، وخصه بإعادة المال مع الأهل، ووعد بإعطائه مائة من الإبل كنوع من تأليف القلوب، والرسول يعرف أن إسلام هوازن ضربة كبيرة لمالك بن عوف، ومع ذلك لم يرد أن يكسر معنوياته، ولم يذله أو يعيره بفقد جنوده، وانضمامهم إلى جيش المسلمين، وإنما عرض عليه عرضًا مغريًا جدًّا، وهو يعلم أن وضع مالك أصبح صعبًا للغاية، ومن ثَمَّ فتح له باب الرجوع إلى الله والانضمام إلى دولة الإسلام.
وهذه هي الحكمة، ومن أراد التعرف على الحكمة فليدرس سيرة النبي ، ووصل الخبر إلى مالك في الطائف، وكما توقع النبي فقد أصبح وضع مالك بن عوف في غاية الصعوبة، فكان يتخوف على نفسه من قبيلة ثقيف، فقد كتب عليهم أن يحاصروا في مدينتهم، وكان مالك سبب وضعهم في هذا الموقف فأصبح خائفًا منهم، ولم يكن مع مالك أتباع فقد أسلمت قبيلته، فكانت دعوة النبي له لتنقذه من أزمة خطيرة، جاءت له هذه الدعوة لتخرجه من موقف لا يحسد عليه، ولم يتردد مالك بن عوف لحظة، بل سارع إلى النبي معلنًا إسلامه بين يديه، ولم يتوقع أحد هذه النتيجة بعد شهرين من موقعة حُنَيْن، وهذه ثمرة من ثمرات المنهج الإسلامي في تعامله مع البشر، فأي قائد غير النبي وغير من سار على نهجه، يكون همه الأول البحث عن قواد عدوه ليقيم عليهم الحدود أو يحبسهم أو يقتلهم أو ينفيهم، لكنه كان حريصًا على كل البشر بغض النظر عن مواقفهم السابقة، وكان نتيجة ذلك إسلام مالك الشخصية الفذة الذي استطاع حشد هذه الجموع لحرب المسلمين، وأصبحت هذه القوى في ميزان الإسلام.
تأليف الرسول لقلب مالك بن عوف
وقد يكون إسلام مالك بن عوف رغمًا عنه، فقد أسلم في ظروف صعبة، وقد يكون رغبة في المال والأهل والإبل، وقد يكون رهبة من ثقيف، أو من النبي ، فقام النبي بخطوتين باهرتين ليستخدم مالك بن عوف وقدراته لصالح الإسلام، وليثبت أقدامه في الإسلام:
الخطوة الأولى: أعاد النبي مالك بن عوف إلى زعامة هوازن، فقائد مثل مالك لا يمكن أن يقبل بتهميشه، ولن يكون الوضع مستقرًّا إلا إذا رضي ذلك القائد، ولن يرضى من في قدرات مالك إلا بتوليته قائدًا، حتمًا ستستفيد الدولة الإسلامية من طاقات مالك بن عوف إن سخرت لصالح المسلمين، بالإضافة إلى أنه أقدر على قيادة قبيلته، وأكثر معرفة بأحوالها وبرجالها، وأدرى بشئونها وبشئون المنطقة بكاملها، ولا يقال هنا: كيف ولاه على هوازن وقد رفض أن يولي أبا سفيان على مكة؟ فالوضع مختلف تمامًا بين الاثنين، فأبو سفيان له تاريخ طويل من العداء مع المسلمين، ولديه ميراث ضخم من الكراهية للنبي ، بينما مالك بن عوف حديث العهد بالنسبة لهذه العداوات، فكل ما بينه وبين النبي لم يتعدَّ هذه الأيام التي تمت فيها حُنَيْن.
أبو سفيان رجل موتور قتل ابنه حنظلة على يد المسلمين، ومالك بن عوف ليس كذلك.
أبو سفيان ممن تقدم بهم السن، ومن غرقوا في عبادة هبل واللات والعزى سنوات طوال، بينما مالك بن عوف شاب حديث السن لم يفنِ عمره في حب هذه الأصنام.
أبو سفيان يقود عدة قبائل حاربت النبي لسنوات طوال وقد تنقلب عليه في لحظة، بينما يقود مالك بن عوف قبيلة تشعر بالجميل، وتعترف بالفضل لرسول الله الذي أعاد لهم السبي بهذا الأسلوب الحضاري الذي رأيناه.
لكل هذه الأسباب وجد أنه من الأسلم والأفضل ومن الحكمة أن يعيد مالك بن عوف على ولاية قومه، فيكسب بهذا مالك بن عوف، ويكسب كل القبيلة، وكانت هذه الخطة الأولى في تعامله مع مالك بن عوف t.
الخطوة الثانية: هي خطوة تدل على براعة النبي ، فقد كلف مالك بن عوف وقبيلته بمهمة في غاية الأهمية، وهذه المهمة هي حصار قبيلة بني ثقيف في الطائف، وبهذا ينفذ النبي أكثر من أمر بشيء واحد.
أولاً: يُفَعّل مالك بن عوف، ويجعل له دورًا إيجابيًّا ويحمله تبعات مهمة جدًّا، وكل هذه الأمور تربية له، وتشعره بقيمته في الدولة الجديدة، وتشعره كذلك بثقة الرسول ؛ وذلك -لا شك- يثبت أقدام مالك بن عوف وقبيلته في الدين الجديد. وكل هذه الأمور إيجابية بالنسبة لمالك بن عوف، ولا تنحصر الفوائد على ثبات مالك بن عوف وقبيلته، بل هناك فوائد أخرى؛ فالرسول سيُكْفَى مئونة ثقيف، وسيجعل من هوازن درعًا للدولة الإسلامية، وسيحجم من قدرات وإمكانيات ثقيف، ويقلل من خطرها، وفوق ذلك كله يستطيع النبي يستطيع أن يرجع إلى المدينة إلا بعد أن يترك من يسد ثغرة الطائف من أبناء قبيلة هوازن. أن يرجع إلى المدينة بأمان ليدير شئون الدولة الإسلامية الشاسعة، وليتابع المهام العظيمة الموكلة إليه هناك، فلم يكن
فكان قرار إعادة مالك بن عوف إلى زعامة هوازن، وقرار حصاره لثقيف في منتهى الحكمة، وقام مالك بن عوف بالمهمة خير قيام وحاصر ثقيفًا حصارًا شديدًا، وما استطاعوا الخروج من أموالهم إلا بجهد جهيد، فقد تم حصارهم ما يقرب من عام، حتى فكروا في أمر الإسلام كما سيأتي إن شاء الله.
وكانت هذه قرارات النبي وهذه سيرته، وغزواته ومعاملته مع الناس، وهذا جزء يسير جدًّا من سيرته ، فنحن نقف على بعض المواقف من سيرته ، ولا نستطيع أن نحصي فضائله، أو أعماله، أو غزواته، أو ما فعله النبي في حياته.
قبسات من أنوار وأقلام العلماء والكتاب قبسات أون لاين حيث الإعلام الهادف قبسات أون لاين
4:10 م
رسولنا
.